وقد مرّ تناول هذا الموضوع لدى شرح «لا إله إلاّ الله» وأ نّها أي «لا إله إلاّ الله» ليست عبارة مركبة من قضيتين من نفي واثبات، ومستثنى منه ينفي الآلهة الاُخرى ليثبت وجود الله سبحانه، إن الأمر ليس كذلك فليس معنى «لا إله إلاّ الله» أ نّه لا إله موجود إلاّ الله، بل إن «لا» بمعنى غير، أي لا وجود للآلهة الاُخرى غير الله الّذي تقبله الفطرة، فالعبارة إذن لا تعني أن ننفي الآلهة أوّلا ثمّ نثبت الله، أن «لا إله إلاّ الله» لا تعني أن ينفي الإنسان الآلهة الموهومة، ثمّ يثبت الله الحقيقة، بل معناها هو أن لا وجود للآلهة غير الله الّذي تقبله الفطرة، ففي البدء يتم اثبات التوحيد ثمّ يعقبه نفي الشريك، لا أن ننفي الطاغوت ثمّ نثبت التوحيد، كما لا تعني أن ننفي الآلهة الموهومة ثمّ نثبت الله الحقيقة، ذلك لأ نّه إذا لم يكن هناك أصل توحيدي فإنّه سوف يكون هناك سبيل نفي الآلهة الموضوعة.
يقول(عليه السلام): «وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له» أي لا يوجد أي مبدأ غير الله، وأ نّه سبحانه لا يقبل المشاركة أي أن فرض الشريك عليه هو فرض المحال لا أ نّه فرض محال لأ نّه إذا كان الله حقيقة غير محدودة فلا محل لفرض إله آخر، إذ فرض الآخر يكون في حالة كون الأوّل محدوداً، وإذا كان الأوّل محدوداً فإنّه يمكن للإنسان أن يملِ هذا الفراغ بفرض الثاني، أمّا حينما لا يكون محدوداً فإنّه سوف لن يكون هناك فراغاً كما إنّه سوف لن يكون درجة من درجات الوجود هذا إلاّ أن تكون للأوّل إحاطة به، إذن لا مكان للغير وأن فرض الشريك لإله ليس بمحدود هو فرض المحال لا إنّه فرض محال.
ثمّ يقول(عليه السلام): «الأوّل لا شيء قبله»[١] فالأول اسم من الأسماء الذاتية لله وأ نّه سبحانه هو الأوّل يقطع النظر عن كلّ الأشياء، إذ أن الأولية هي صفة ذاتية لله، وإذا كانت كذلك فسوف لن يوجد شيء ليكون أوّلا غير الله، لماذا؟ لأ نّه لو كانت الأولية عين ذات الله ووجدت هذه الأولية في غيره فإن ذلك سوف يعني سلب الشيء عن نفسه، ولهذا يقول(عليه السلام): «لا شيء قبله» إذ لا يمكن لشيء أن يكون قبل الأوّل بالذات، ومن هذا نستنتج أن الله هو المبدأ الأوّل، وأ نّه وحده صاحب الدرجة الوجودية الاُولى، وهنا تجدر الإشارة إلى أن عدد الأوّل لا يجري عليه ولو جرى عليه وكان قابلا للثاني لما كان أوّلا.
إذ الأوّل القابل للثاني هو الأوّل الرياضي العددي، أمّا المنزه عن الكمية فأوليته سوف لن تكون عددية رياضية، وبناءً على هذا فإن الله ليس أوّلا بنحو يكون له آخر غيره، وإنّه ليس أوّلا ليكون له ثان «والآخر لا غاية له»[٢] أي إذا كانت الآخرية ذاتية للحقّ فإنّه لا شيء غير الله لا بعده ولا وراءه.
إذن لا نهاية له لأ نّه إذا كان كمالا غير محدود، فلا مسوغ لفرض وجود لما وراء الكمال اللامحدود، إذ الفرض يعني أن الله كامل إلى حد معين، ويتلو هذا الحد كمال آخر، أو أن يكون له وجود إلى حد معين ثمّ يكون بعده، وجود آخر، إن فرضاً كهذا هو فرض المحال أيضاً، ولهذا نجده(عليه السلام) يصف الله سبحانه بأ نّه الآخر لا غاية ولا نهاية له، كما لا مقصود ولا مراد سواه.
إن ذاتاً كهذه هي ذات غير محدودة، ولما كانت غير محدودة فإنّها لا تتأطر في اطار شهود العارف ولا في اطار الفيلسوف، لمكان محدوديتهما، فلا سبيل لبلوغ كنه الحقّ بالأفكار الدقيقة المعمّقة، ولا بالمشاهدات العرفانية، كما لا يمكن الحصول على أي طريق آخر يؤدي إلى هذا الكنه، يقول(عليه السلام): «لا تقع الأوهام على صفة»[٣] فلا حركة العقل قادرة على أن تصف الله بما هو عليه ولا أن تدركه: «ولا تعقد القلوب منه على كيفية»[٤] أي ولا القلوب هي الاُخرى قادرة على إدراكه ضمن كيفية معينة، لأن القلب نفسه والشهود والكيفية كلها جميعاً خاضعة لهيمنته وإحاطته.
وإذا كان الله غير محدود فيعني أ نّه محيط بفكر المفكر وبذاته وفكرته، بالضبط مثلما هو محيط بشهود العارف وبذاته وعرفانه، لذلك لا العارف ميسّر له أن يسلك طريق الشهود إلى كنه ذات الحقّ، ولا الفيلسوف متاح له ذلك.
وقد ذكر في أحد المجامع الروائية ما يوافق ما نقله المحقق الداماد رضوان الله عليه، أ نّه سئل الإمام المعصوم سلام الله عليه «كيف هو» أو «حيث هو» أي ما هي كيفيته سبحانه، وما هي حيثيته؟ فأجاب(عليه السلام) بأن الله خالق الكيف والحيثية، ولهذا فلا سبيل للكيف ولا للحيث إليه سبحانه، إنّه حيث الحيث بلا حيث له، وعندما نتساءل كيف الله وما هو؟ فإن نفس ما هو وكيف هو مخلوقة لله تعالى، فنفس التساؤل مخلوق له عزّ وجلّ، وكلّ الأسئلة ومعها فكر السائلين هي الاُخرى مخلوقة لله، وبديهي أن ما يكون مخلوقاً له سبحانه لا يكون محيطاً به، ولا مهيمناً عليه، إذن فلا الحسابات العقلية ولا المشاهدات القلبية يمكنها أن تجد لنفسها سبيلا إلى كنه ذات الله.
ثمّ يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «ولا تناله التجزئة والتبعيض»[٥] أي لا جزء له ولا بعض لأ نّه بسيط، فلا يمكن لأحد أن يزعم بأ نّه عرف بعض الله، كما لا يمكن فرض البعض عليه، ذلك لأن الشيء المشتمل على التبعيض يكون مركباً من أبعاض ومحتاجاً لأن تكون له أبعاد، فلابدّ لتلك الأجزاء من أن تكون متناسقة متجانسة ليتشكل الشيء المركب بكامله، وبديهي أن الشيء المحتاج إلى غيره لا يكون إلهاً. إذن فلابدّ من أن يكون الله وجوداً مجرداً غير محدود: «لا تناله التجزئة والتبعيض، ولا تحيط به الأبصار والقلوب» فلا العين ولا القلب ولا البصر ولا البصيرة ولا العقل ولا الشهود ولا الفيلسوف ولا العارف يمكنهم الإحاطة بالله. والسبب هو لأن الله غير محدود ولو أراد محدود الإحاطة بما ليس بمحدود للزمه أن يكون غير محدود، وأن يكون غير المحدود محدوداً، في حين أن غير المحدود لا يمكن أن يخضع لإحاطة أحد: «ولا تحيط به الأبصار والقلوب» باعتبار عدم محدوديته، أمّا علامة لا محدوديته فليست أ نّه موجود مع الإنسان في كلّ الحالات، وأ نّه موجود مع الجميع في كلّ الأوضاع وأ نّه (وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُـنْتُمْ)[٦] فحسب بل لأ نّه موجود مع كلّ فرد في كافة حالاته السابقة واللاحقة وبمستوى واحد.
جاء في دعاء السفر ـ وهو دعاء تستحب قراءته عند السفر ـ حيث أورده أميرالمؤمنين(عليه السلام) في احدى خطبه منسوباً إلى الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «اللّهمّ أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل»[٧] أي إلهي إننا إذ نستودعك الأهل والولد عند السفر ونأتمنك عليهم فإنّك معنا في نفس الوقت الّذي أنت فيه معهم، فأنت الرفيق للمسافر وال خليفة في أهله.
وقال(عليه السلام) في ذيل هذه العبارة التي ينقلها عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) «ولا يجمعهما غيرك» أي لا تجتمع هاتان الصفتان إلاّ في الله سبحانه، فممن الممكن أن يكون غير الله رفيقاً في السفر إلاّ أ نّه لا يمكن أن يكون نفسه أيضاً خليفة في الأهل، فليس لرفيق المسافر أن يكون هو نفسه الخليفة في الأهل والرفيق للمسافر في آن واحد، إذن من يكون رفيقاً في السفر لا يكون خليفة، ومن يكون خليفة لا يكون رفيقاً.
إن أميرالمومنين(عليه السلام) يقول إلهي ليس لغيرك أن تجتمع هاتان الصفتان في وقت واحد فقد يكون شخص ما رفيقاً في السفر ويكون شخص آخر خليفة، أمّا أن يكون نفس الشخص رفيقاً في السفر وخليفة في الأهل في وقت واحد فغير ممكن بل محال.
إنّ عليّاً(عليه السلام) يرى أن هاتين الصفتين لا تجتمعان إلاّ في الله تعالى: «ولا يجمعهما غيرك» والسبب هو: «لأن المستخلف لا يكون مستصحباً، والمستصحب لا يكون مستخلفاً»[٨] فمن كان صاحباً لمسافر ما لا يكون مستخلفاً، ومن كان خليفة عند أهله لا يكون رفيقاً له في السفر، ولكونه محدوداً، فإذا كان المحدود معنا لا يمكنه أن يكون خليفة، وكذا إذا كان خليفة لا يمكنه أن يكون معنا، إنّه لا يمكن أن يكون موجوداً في الأمام وفي الخلف في وقت واحد، وما ذلك إلاّ لله تعالى، حيث من الممكن أن يكون مرافقاً للإنسان في السفر وخليفة له عند الأهل، والسرّ في ذلك هو عدم محدودية وجوده سبحانه، وأ نّه محيط بالأهل وبالمسافر معاً لعدم محدودية وجوده، فهو سبحانه يقضي حوائج أهل المسافر المتروكين في المنزل، مثلما يقضي احتياجات المسافر التي تعترضه في الطريق.
إذن «ولا يجمعهما غيرك» لأن غير الله لو كان مرافقاً لم يكن خليفة، كما أ نّه إذا كان خليفة لا يكون مرافقظ اً، وهذا هو معنى كونه تعالى الأوّل والآخر، والظاهر والباطن، إن عليّاً(عليه السلام) يؤكد حقيقة أن الله أوّل في عين الحال الّذي هو فيه آخر ولا يمكن أن يكون هناك موجود غير الله يكون أو لا يكون آخراً في وقت واحد، كما لا يمكن أن يكون هناك موجود غير الله ظاهراً وباطناً في وقت واحد، إذ أن الشيء إذا ما صار أوّلا فإنّه لا يكون آخراً، وإذا كان ظاهراً فإنّه لا يكون باطناً لمكان محدوديته، وكذا إذا كان باطناً فإنّه لا يكون ظاهراً لمحدوديته أيضاً، أمّا إذا كانت هناك حقيقة غير محدودة فإنّها سوف لن تدع مكاناً للغير ليملِ ذلك المكان أو تكون لها واحدة من تلك الصفات، لذا فهو الأوّل باعتبار أن كلّ الفيوضات صادرة عنه، وأ نّه نفسه الآخر باعتبار أن كلّ الموجودات تتحرك باتجاهه.
إن صدر المتألهين يثبت في كتابه المبدأ والمعاد نحواً من الحركة الدقيقة والرشيقة لاُولئك الذين يتحركون باتجاه الله سبحانه وهم في قالب الطبيعة والمادة، وكذا لاُولئك الذين يتحركون باتجاهه وهو في عالم ما فوق الطبيعة، وعلى أية حال فإن كلّ ما هو موجود مضطر ومحتاج لله، لأ نّه كمال غير محدود، إذ ما من شيء إلاّ هو نازل منه سبحانه، باعتباره المبدأ الأوّل لجميع الفيوضات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذين الموضوعين في قوله تعالى: (يَسْأ لُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأن)[٩] فكافة الموجودات سواء التي في السماء، أم التي في الأرض تستمد العون والحاجة منه، وله في كلّ يوم فيض وشأن جديد فمثلما أن كلّ الإحتياجات والطلبات جديدة فإن لله سبحانه في لحظة فيض جديد يلبي به كافة الطلبقات ويجيب عليها، فمن جانب حاجة ومسألة ومن الجانب الآخر عطاء ومنح للوجود، وبناءً على هذا التحليل يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أ نّه لما كانت الأولية ذاتية له فإنّه لم يبق مكان للغير ليكون أوّلا، ولما كانت الآخرية ذاتية له لم يبق مكان للغير أيضاً ليكون آخراً.
يقول(عليه السلام): «الأوّل قبل كلّ أوّل»[١٠] وقبليته هذه هي الاُخرى ذاتية أي أن الله أوّل قبل أن تتصف بقية الموجودات بصفة الأوّل، وهذا يعني أو أولية الموجودات أولية نسبية محدودة غير مطلقة، ثمّ يقول(عليه السلام): «والآخر بعد كلّ آخر» أن الله موجود بعد كلّ نهاية.
من هذا نفهم أن الجميع يتحركون باتجاهه سبحانه وتعالى، فواحد يثبت المبدأ والتوحيد والآخر يثبت المعاد والقيامة، ذلك لأن وجودهم ليس عين ذاتهم، فالجميع محتاج إلى المبدأ المانح للوجود، ولما كان الجميع متحرك نحو الكمال، فإن الجميع متجه نحو القيامة، ونحو اليوم الآخر. ولابدّ لعالم الطبيعة المتلاطم الأمواج والمتحرك من يوم ترسو سفينته فيه.
وهنا للقرآن الكريم تعبير دقيق عن يوم القيامة حيث يسأل الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه: (يَسْأ لُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أيَّانَ مُرْسَاهَا)[١١] فالسؤال هو متى سترسو سفينة الطبيعة؟ وأين سيكون وقوف الدنيا؟ ومتى سيهدأ بحر الطبيعة والمادة؟ هذا البحر الهائج المائج المتحرك؟ متى ستسقر هذه السفينة وهي بهذا الإنهماك والسير؟ وبالتالي متى ستنتهي الحركة إلى الهدف؟ حيث لا حركة من غير هدف، وإذا ما كانت هناك حركة ولم تبلغ مكاناً ما فإنّها حركة غير هادفة، أمّا عالم المادة والطبيعة المتحرك فإنّه متّجه صوب هدف، وما أن سيبلغ الهدف والغاية فإنّه سيهدأ ويستقر.
لأميرالمؤمنين(عليه السلام) قول آخر في مجال توضيح معنى الآية الشريفة الآنفة الذكر هو : «وإن اليوم عمل ولا حساب»[١٢] والمعنى هنا باليوم هو الدنيا التي هي يوم عمل لا يوم حساب، «وغداً حساب ولا عمل»[١٣] أي أن غداً هو يوم القيامة يوم حساب لا يوم عمل، وسيكون يوم القيامة محلا لمحاسبة نتائج الأعمال التي تحصل عليها في الحياة الدنيا.
إن عليّاً(عليه السلام) يوضح أن الدنيا دار عمل لا دار حساب، أمّا القيامة فدار حساب لا عمل، إذن فالسفينة الممتلئة بالعمل الهائل ستصل إلى عالم الحساب وسترسو على ساحله حيث سيكون هناك استقرارها، أمّا الحركة يوم القيامة فهي ليست بالمعنى الّذي عليه في الدنيا، وكذا التبدّل والتغيّر والعمل، وقد كان استدلال أميرالمؤمنين(عليه السلام) في أصل البحث على النحو التالي: «وبأوليته وجب أن لا أوّل له»[١٤] أي أ نّه لما كان أوّلا ذاتاً فلا يمكن أن يكون هناك أوّل غيره أو قبله وإلاّ لاستلزم سلب الذات منه «وبأخريته وجب أن لا آخر له»[١٥] أي لما كان آخراً ذاتاً فليس من الممكن أن يكون له آخر، وإذا ما وجد شيء غيره وكانت له نهاية فإنّه سوف لن يكون هو، لأن سلب الآخرية من الله سبحانه تعني سلب الذات منه،وسلب الشيء من نفسه محال، وما دامت الآخرية ذاته فإنّه لا آخر له، وهكذا أوليته.
ثمّ يقول(عليه السلام): «وأشهد أن لا إله إلاّ الله شهادة يوافق فيها السرّ الإعلان، والقلب اللسان»[١٦] أي إنّني أشهد بهذا التوحيد شهادة يوافق فيه سري وباطني وضميري الإعلان ويوافق فيه قلبي اللسان، فإذا ما وحّدت الله تعالى بلساني فإنّي قلباً موحد أيضاً، إن التوحيد ـ في الحقيقة ـ راسخ في قلب أميرالمؤمنين(عليه السلام)وإنّه من الراسخين في العلم، حيث أحاط علم التوحيد به إحاطة كاملة، فلا يفكر إلاّ في الله ولا يسعى إلاّ لمرضاته، ولا يعمل إلاّ بتعاليمه وإرشاداته.
إن التوحيد إذا رسخ في قلب موحّد فإنّه سوف لن يدفعه يفكّر بغير ما يحبّه الله، بل ولا يساوره ذلك، فهو لا يصطبغ بصبغة لا يرتضيها الله، ولا يعمل ما لا يحبه، وعليّ(عليه السلام) حينما يقول إنّي أشهد بالتوحيد شهادة يطابق ف يها الباطن الظاهر ويتطابق اللسان فيها مع القلب فإنّه يعني أن التوحيد لم يكن لينطق به اللسان فحسب، بل استوعب روحي وملء قلبي، وإنّه لم يكن ليملك ظاهري فقط، بل أحاط بباطني أيضاً، إنّه(عليه السلام) يقول إذا كان الله ذاتاً ظاهراً أو ذاتاً باطناً فإنّي موحّد في الظاهر وموحد في الباطن أيضاً، وإذا كان الله أوّلا وآخراً، فإنّي معترف بلساني بهذه الوحدانية لله ومقرّ بها مثلما أ نّي مقرّ بلسان قلبي، فكما أن شيئاً لو حل في مكان وانتشر فيه فإنّه سوف لن يبقى محل لغيره، وهكذا هو الوجود اللامحدود لله لم يبق محلا لغيره، فلا شريك له، لأن التوحيد إذا غمر قلب موحّد فإنّه سوف لن يدع مجالا لغيره سواء كان هذا الغير باطنياً أم ظاهرياً، وسواء كان هوى للنفس أم غير ذلك، أي سواء كان رغبة باطنية أو رغبة ظاهرية، إنّه يحول دون انخداع الإنسان بخدع الباطن، كما أ نّه يحول دون تأثير للمكر الظاهري في النفس، والسبب في كلّ ذلك هو عدم وجود محل للغير، إن رسوخ التوحيد في نفس الإنسان لن يبقي محلا للمكر، ولا يسمح له بالتحرك من الداخل أو بالهجوم من الخارج، وبهذا لا يتعرض الإنسان لاعتداءات العدو الظاهري ولا لاعتداءات العدو الباطني، ذلك لأن التوحيد قد غمر ساحة الوجود كلها.
يقول الصادق(عليه السلام): «جاهد هواك كما تجاهد عدوك»[١٧] أي قاتلوا أهواءكم وميولكم الباطنية مثلما تقاتلون الأعداء الظاهرين، ولو هجمت نزوة أو هوى من الداخل ووفقت في هجومها فإنّها تكون قد وجدت لها محلا خالياً في القلب، وهذا المحل هو من نوع ذلك الهوى وذلك المكان الّذي جاءت وانطلقت منه، ولكن إذا غمر الاعتقاد بوحدانية الله كلّ ساحة النفس، وغطّى التوحيد صفحة القلب ونوّره فإنّه سوف لن يكون هناك محل للهوى.
إن عليّاً(عليه السلام) يستدل على ما تقدم حيناً بقوله: «والله إنّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة»[١٨] أي أن الفرق بيني وبين معاوية هو أن ذكر الحقّ يمنعني عن قول الباطل، أمّا ما يمنع معاوية عن ذلك فهو نسيان الآخرة، إن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول إن اشتغالي بذكر الموت الّذي هو حدّ للآخرة وبوابة ومدخل لعالمها حيث يرسو عالم الطبيعة فيها ويستقر في شواطئها، لم يدع لي فرصة الإشتغال باللعب، إذ التوحيد الغامر لساحة النفس لن يدع للنزوة وللهوى محلا ولا مكاناً، وبالإضافة إلى ذلك فإنّه يحول بين الإنسان وبين الخوف من العدو الداخلي والخارجي، وإذا حاول العدو البحث عن ثغرة للنفوذ فإنّه سوف لن يفلح حتى لو مارس النفوذ من خلال القيام بعملية هجومية، إذ أن العدو تارة يكون قد احتل موقعاً على الأرض وتارة يحاول التوغل في الأراضي وفتح ثغرة فيها بهجوم يقوم به.
إنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول إن ساحة نفسه مغمورة بالتوحيد لا يوجد فيها أي محل خال لينفذ إليه العدو، أو ليكون مستقراً فيه، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن أهل الثغور يكونون يقظين ولا ثغرة ـ في أوساطهم ـ مفتوحة للعدو كي ينفذ منها أو يخترقها، والسبب ـ كما قلنا ـ هو أن التوحيد إذا غمر ساحة النفس فإنّها ستكون يقظة في كلّ جوانبها، وهل لروح الإنسان من نوم؟ إنّها في حالة يقظة سواء كان الإنسان يقظ أو نائم، ذلك لأن الروح لا تنام، ولو نام الإنسان فإن مقداراً جزئياً من الروح هو الّذي ينفصل عنه على شكل نوم، وإلاّ فإن الارتباط بين الروح والبدن لو انقطع بنحو كامل فإن ذلك يعني الموت.
إن الموت هو خروج الروح من البدن، وانعتاقها من سجنه، هذا السجن الّذي يخرج منه قدر من الروح عند النوم، أمّا عند الموت فإن الروح تخرج بأكملها، إذن فلا تنام الروح مطلقاً، كما أن الروح إذا لم تكن موحدة فإنّها ستكون عرضة للأخطار، فمثلما أن كثيراً من الكمالات ينالها الإنسان غير عالم النوم فإنّه في نفس الوقت يكتسب عبر هذا العالم الكثير من الموبقات التي يبتلى الإنسان بها إثر وساوس الشيطان التي يوسوس بها في النفس.
والنفس الملوثة السيئة لو استيقظت فإنّها ستلوث البدن الملوث أكثر.
إن أميرالمؤمنين(عليه السلام) ولكي يثبت أن لا سبيل للعدو إلى الأشخاص اليقظين: «وإن أخا الحرب الأرق، من نام لم ينم عنه» فرجل الحرب المقاتل يقظ عادة وذلك لتلازم الحرب واليقظة تلازماً لا ينفك، فمن نام لم ينم العدو عنه، بل ويحاول استغفاله إذ من عادة الشيطان استغفال الإنسان من النافذة والطريق الذي لم يبصره، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الخطر في قوله تعالى: (إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)[١٩] أي أن الشيطان وأعوانه يرونكم من المكان الّذي يشكل عليكم رؤيتهم منه، إنّهم يستغفلون ويوسوسون ثمّ يهجمون عليكم، أمّا إذا عرف الإنسان الطريق الّذي يسلكونه، وأحكم سيطرته على كافة منافذه ومساراته فإنّه سوف لن يستغفل، وسيرى الشيطان ببصيرته لا ببصره، ولهذا يرى عليّ(عليه السلام)، أن الإنسان المقاتل يقظ لا ينام، ويدقق النظر في خاطرة تخطر بباله، وهو بهذا مصداق لقوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[٢٠].
أي أن الإنسان المتّقي يتمتع برؤية توحيدية قادرة على إيقاظه فور تعرض نفسه لأدنى مواجهة شيطانية تريد مسها بسوء فيتنبه ويقوم بطردها.
إن عليّاً(عليه السلام) يشبه روح المؤمن بالكعبة ويرى أن الشيطان لو أراد الطواف حول كعبة القلب ودخلها بلباس الإحرام، وأراد فتح طريق الوسوسة إلى القلب، استيقظ المؤمن وتنبه قلبه (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي اُولئك المتحلّون بالتقوى (إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) أي إذا أراد طائف شيطاني أن يقوم بمواجهة ما، ويطوف حول كعبة القلب (تَذَكَّرُوا) أي أ نّهم فهموا واستيقظوا أ نّه الشيطان جاء بهيئة طائف يدور حول كعبة القلب ليجد له طريقاً إليه(فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي متذكرون مستيقظون وناظرون إليه ومستعدون لدفعه ومواجهته، وما دعوة القرآن الكريم إلى الاستعاذة بالله من الشيطان إلاّ كالدعوة إلى الاحتماء بالملاجىء عند اعلان الخطر، ولا يكفي أن يقول الإنسان عند حدوث خطر ما «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فحسب، بل لابدّ له من الاحتماء بملجأ والملجأ من هذا الخطر هو التوحيد.
إن رسوخ التوحيد في قلب الإنسان يعني أ نّه توفر على الملجأ المطلوب ممّا سيحميه من نفوذ الآخرين إليه، لقد سلط أميرالمؤمنين(عليه السلام) الضوء على هذا الأمر ورسم هذه الصورة بعبارات مختلفة بليغة وقيمة، ففي خطبه له يصف بها المؤمن والعبد المخلص لله، المغمور بالعنايات الإلهية ويقول: «فزهر مصباح الهدى في قلبه»[٢١] أي أن مصباح الهداية أضاء قلبه فلم يعد مظلما، وبديهي أن الظلمة تمهد السبيل أمام العدو حيث يتّخذها ستاراً لمروره وهجومه، أمّا إذا كان الإنسان يقظاً فإنّه سوف لن يتمكن العدو من النفوذ إلى القلب، سواء أكان العدو باطنياً أو خارجياً.