فلم يمضِ إلاّ وقت قصير على رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، حتّى استجدّت أمور وأحداث خطيرة تتهدّد الإسلام وأمّته بالفناء ، فقد قوي أمر المتنبئين بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) واشتدّ خطرهم في الجزيرة العربية من أمثال : مسيلمة الكذّاب ، وطلحة بن خويلد الأفّاك ، وسجاح بنت الحرث الدجّالة . . وغيرهم ، وصار وجودهم يشكِّل خطراً حقيقياً على الدولة الإسلامية . واشتد ساعد المنافقين وقويت شوكتهم في داخل المدينة ، وكان الروم والفرس للمسلمين بالمرصاد . هذا عدا ظهور التكتلات السياسية في المجتمع الإسلامي على أثر بيعة السقيفة .
ولقد تعامل الإمام(عليه السلام) مع الخلافة حسب ما تحكم به المصلحة الإسلامية حفظاً للإسلام وحماية للجامعة الإسلامية من التمزّق والضياع ، وتحقيقاً للمصالح العليا الإسلامية التي جاهد من أجلها .
وللإمام علي(عليه السلام) كتاب جاء فيه ـ بهذا الصدد ـ ما نصّه : « . . . فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ،يدعون إلى محق دين محمّد(صلى الله عليه وآله) ، فخشيت إنْ لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ،يزول منها ما كان ، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب ،فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه» .
بيد أنَّ صوت علي(عليه السلام) كان يعلو عندما يستشار ويجهر عندما يستفتي ، وقد تصدّى ـ في هذا المضمار ـ لتوجيه الحياة الإسلامية ، وفقاً لما تقتضيه رسالة الله تعالى في الحقول التشريعية والتنفيذية والقضائية .
ومن أجل ذلك فإنّ الباحث التاريخي في حياة الإمام علي(عليه السلام) لا يلبث إلاّ أن يلتقي مع مئات المواقف والأحداث ـ في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ـ التي لا تجد غير علي(عليه السلام) مدبّراً لها ومعالجاً وقاضياً بأمر الشريعة فيها[١] .
وطيلة هذا العهد مارس الإمام مهمّة النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقديم المشورة ـ رغم اختلافه مع الحاكمين ـ حتّى في ذروة الثورة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان[٢] .
والخلفاء الثلاثة لم يروا بداً من استشارته إذا التبست عليهم الأمور ، وهكذا نجده ـ مرّةً ـ مرشداً إلى الحكم الإسلامي الصحيح في أمر ما ، ومرّةً نجده قاضياً في شأن من شؤون الأمّة ، وأخرى موجِّهاً للحاكم الوجهة التي تحقّق المصلحة الإسلامية العليا .
وبمقدورنا أن نلمس دوره الرسالي ذلك إذا طرحنا بعض مفردات منهجه المتبنى أيّام الخلفاء الذين سبقوه :
* فكّر أبو بكر بغزو الروم ، فاستشار جماعة من الصحابة فقدّموا وأخّروا ، ولم يقطعوا برأي ، فاستشار عليّاً(عليه السلام) في الأمر فقال(عليه السلام) : «إن فعلت ظفرت» .
فقال أبو بكر : بشّرت بخير . وأمر الناس بالخروج ، بعد أن أمّر عليهم خالد بن سعيد[٣] .
* أراد أبو بكر أن يقيم الحدّ على شارب خمر . . . فقال الرجل : إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها ، فأرسل إلى الإمام يسأله في ذلك ، فقال(عليه السلام) : «مر نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على المهاجرين والأنصار وينشدانهم; هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحدّ عليه ، وإنْ لم يشهد أحد بذلك ، فاستتبه وخلِّ سبيله»[٤] .
* قدم جاثليق النصارى يصحبه مائة من قومه ، فسأل أبا بكر أسئلة ، فدعا عليّاً(عليه السلام) فأجابه عنها . . وأرسل ملك الروم رسولا إلى أبي بكر يسأله أسئلة محيّرة . . لم يجد غير علي حريّاً بالإجابة عنها .
* وحين أراد عمر بن الخطّاب أن يغزو الروم راجع الإمام عليّاً(عليه السلام) في الأمر ، فنصحه الإمام بألاّ يقود الجيش بنفسه مبيّناً علّة ذلك قائلا : « . . فابعث إليهم رجلا مجرّباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فإن أظهره الله فذاك ما تحبّ ، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ، ومثابةً للمسلمين»[٥] .
* بعد أن فتح المسلمون الشام جمع أبو عبيدة بن الجرّاح المسلمين واستشارهم بالمسير إلى بيت المقدس أو إلى قيسارية ، فقال له معاذ بن جبل : اكتب إلى أمير المؤمنين عمر ، فحيث أمرك فامتثله ، فكتب ابن الجرّاح إلى عمر بالأمر ، فلمّا قرأ الكتاب ، استشار المسلمين بالأمر .
فقال علي(عليه السلام): مر صاحبك ينزل بجيوش المسلمين إلى بيت المقدس ، فإذا فتح الله بيت المقدس،صرف وجهه إلى قيسارية ، فإنّها تفتح بعدها إن شاء الله تعالى، كذا أخبرنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
قال عمر : صدق المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وصدقت أنت يا أبا الحسن . . ثمّ كتب إلى أبي عبيدة بالذي أشار به علي(عليه السلام)[٦] .
* ورد إلى بيت مال المسلمين مال كثير من البحرين ، فقسّمه عمر بين المسلمين ، ففضل منه شيء ، فجمع عمر المهاجرين والأنصار واستفتاهم بأمره قائلا : ما ترون في فضل ، فضلَ عندنا من هذا المال؟
قالوا : يا أمير المؤمنين إنّا شغلناك بولاية أمورنا من أهلك وتجارتك وضيعتك ، فهو لك .
فالتفت عمر إلى علي قائلا : ما تقول أنت؟
قال الإمام : قد أشاروا عليك .
قال الخليفة : فقلْ أنت .
قال(عليه السلام) : لِمَ تجعل يقينك ظنّاً؟ ثمّ حدّثه بواقعة مشابهة في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) . . وأخيراً أشار عليه الإمام(عليه السلام) بتوزيعه على الفقراء ، قائلا : «أُشير عليك أن لا تأخذ من هذا الفضل وأن تفضّه على فقراء المسلمين» .
فقال عمر : صدقت والله .
* وقد ورد أنّ عمر بن الخطّاب رأى ليلة رجلا وامرأة على فاحشة ، فلمّا أصبح قال للناس : أرأيتم أنّ إماماً رأى رجلا وامرأة على فاحشة ، فأقام عليهما الحدّ ما كنتم فاعلين؟
قالوا : إنّما أنت إمام .
فقال علي بن أبي طالب : «ليس ذلك لك ، اذن يُقام عليك الحدّ ، إنّ الله لم يأمن على هذا الأمر أقلّ من أربعة شهداء» . ثمّ إنّ عمر ترك الناس ما شاء الله ، ثمّ سألهم; فقال القوم مثل مقالتهم الأولى . . وقال علي(عليه السلام) مثل مقالته . فأخذ عمر بقول الإمام(عليه السلام) .
* شاور ابن الخطّاب أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) في سواد الكوفة ، فقال بعضهم : تقسمها بيننا ، ثمّ شاور عليّاً(عليه السلام) في الأمر ، فقال : إنْ قسّمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء ، ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها ، فتكون لنا ولمن بعدنا . فقال عمر لعلي : وفّقك الله . . هذا الرأي .
* عن الطبري في تاريخه عن سعيد ابن المسيب ، قال : جمع عمر بن الخطّاب الناس فسألهم: من أي يوم نكتب التاريخ؟
فقال علي(عليه السلام) : من يوم هاجر رسول الله(صلى الله عليه وآله) وترك أرض الشرك ، ففعله عمر[٧] ، وهكذا وجد التاريخ الهجري ليؤرّخ به المسلمون .