وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                

Search form

إرسال الی صدیق
المشككون بنهج البلاغة

علي الفتال

إذا ما رجعنا إلى سيرة الشريف الرضي سنعرف أنه هوالذى جمع مفردات «النهج» وذلك في ٤٠٠ ھ  ولكن ثمة من نسب جمع النهج إلى الشريف المرتضى أخي الرضي ، من هؤلاء جورجي زيدان [١] إذ قال «والصحيح إنه من جمع الشريف المرتضى»، وكذا قال بروكلمان [٢] ، أما شوقي ضيف فقد قال في كتابه (تاريخ الأدب العربي – العصر العباسي /١٢٨): «إن اعتراف الشريف الرضي بجمعه (النهج) دليل على وضعه إياه، وبذلك قد خلط بين الوضع والجمع».

في الحقيقة إن تلك الأقوال لا تريد التشكيك في من جمع (النهج) بقدر ما تريد التضبيب حول عائدية (النهج) أصلأ ، إلى الإمام علي عليه السلام ، وذلك للتقليل من شأنه وشأن أمير المؤمنين عليه السلام . 

والمسألة قديمة ؛ إذ أن خصومه عليه السلام ، منذ بزوغ نجمه – سواء في الغزوات والحروب في بدء الدعوة الإسلامية وفي تقريب النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم  إياه قولاً وعملاً – أخذوا ينالون منه بوسائل شتى يوم غدير خم ، الذي رفع الرسول الكريم فيه علياً عليه السلام وقال : «من كنت مولاه  فهذا علي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».

أو قبل ذلك يوم زوَّجه ابنته فاطمة الزهراء عليه السلام ومن خلال أحاديثه صلى الله عليه واله وسلم  الكثيرة في حق الإمام عليه السلام كقوله صلى الله عليه واله وسلم  وهو يخاطبه «يا علي .. حبك إيمان وبغضك نفاق ؛ وأول من يدخل الجنة محبك ، وأول من يدخل النار مبعضك ».

وقد أحسَ خصوم الإمام بأنه سيكون له شأن في البنيتين الفوقية والتحتية للهيكلية الإسلامية فصاروا ينالون منه بطرق خبيثة حتى في زمن النبي صلى الله عليه واله وسلم  أو بعده ، ففي زمن النبي صلى الله عليه  واله وسلم نذكر الرواية التي تقول أن الرسول صلى الله عليه واله وسلم  بعث علياً في سريَة ليقبض الخمس فاصطفى منه سبيَة ؛ واتفق أربعة من شهود السرية أن يبلغوا ذلك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم  متعاقبين واحداً بعد واحد في قول واحد ، فلما فرغ الرابع من حديثه أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم  وقد تغيَر وجهه ، فقال «ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ علي مني وأنا منه  ، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة».

وقال لأحدهم: أتبغض علياً ؟ قال:  نعم.

قال صلى الله عليه واله وسلم :لا تبغضه ، فإن له الخمس أكثر من ذلك ، أي أكثر من السبية التي اصطفاها .. لا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حباً».

والرواية التي تقول: إنه بعث الإمام علياً عليه السلام إلى اليمن فسأله جماعة من أتباعه أن يركبهم إبل الصدقة ليريحوا إبلهم فأبى فشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم  بعد رجوعهم ، وتولى شكايته سعد بن مالك الشهيد فقال:

يا رسول الله ، لقينا من علي الغلظة وسوء الصحبة والتضييق .. ومضى يعدد ما لقيه ، حتى ضاق به الرسول ذرعاً فهتف به، وهو في أثناء كلامه:

يا سعد بن مالك الشهيد بعض قولك لأخيك علي ، فوالله لقد علمت أنه جيش في سبيل الله.

وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه واله وسلم  للشاكين من الإمام علي عليه السلام:

أيها الناس لا تشكوعلياَ إنه لجيش في ذات الله.

والرسول صلى الله عليه واله وسلم  كان يعلم أن ثمة من يضمر العداوة والبغضاء للإمام علي عليه السلام حسداً له من قربه من ابن عمَه صلى الله عليه واله وسلم  فكان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم  يؤكد – كما يقول إبن عباس – لهم منزلته العالية في الدنيا والآخرة في قوله :

أنت سعيد في الدنيا وسعيد في الآخرة ، من أحبَك فقد أحبَني ، وحبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوَك عدوَي ، وعدوَي عدوَ الله ، طوبى لمن أحبَك والويل لمن أبغضك».

وبعد زمن النبي صلى الله عليه واله وسلم  صاروا يقلبون الحقائق ويحوٌرون الكلم بما يقلَل من شأن الإمام علي عليه السلام ؛ فقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم  وجده (أي علياً عليه السلام) في المسجد نائماً وقد ترب جنبه فجعل يمسح التراب عن جنبه ويقول: قم يا أبا تراب.

ويري العلاَمة محمد صادق الصدر إن كلمة (أبوتراب) كناية عن كثرة عباىته وصلواته ، لأن المسلمين في السابق كانوا يسجدون على التراب ، وكان الإمام علي عليه السلام معفَر الجبين لكثرة ما يسجد. فقوله: (قم يا أبا تراب) على حد قوله: (قم يا كثير العبادة).

وقد كانت هذه الكنية من احب الكنى إليه صلى الله عليه واله وسلم  إذ كان كثيراً ما يدعوه بها.

ولكن معاوية بن أبي سفيان، ومن حوله أحسَوا برفعة هذه الكنية وميزة صاحبها ، فأخذوا يموَهون على الناس بأن سبَوه بها على المنابر مظهرين أنها منقصة له [٣]. 

كانت تلك البداية؛ إذ  بدأوا بشخص الإمام عليه السلام فنالوا منه ما يشاؤون ليأتوا إلى  معطياته الجهادية  والأخلاقية والفكرية والإبداعية فيحطَوا من قدرها ويقللوا من شأنها ، فلا غرابة – إذن – إذا ما قرأنا ، هنا وهناك ، وفي هذا العصر أو ذاك ، تشكيكاً في عائدية «النهج» إلى الإمام علي عليه السلام أو الطعن في بعضه بطريقة مبَطنة كتبطين كلمة الحق يراد بها الباطل.

فظهرت الأصوات صريحة مرة ومبطَنة أخرى وخفيَة تارة وصارخة حيناً؛ فـ «محمود محمد شاكر» يرى إن «نهج البلاغة» موضوع وملفَق على الإمام علي عليه السلام «لأنه كلام كثير الغثاثة » [٤].

تلك غمزة لم يكن محمود محمد شاكر وحده قد غمز بها «النهج» وصاحبه ، فقد شاركه بها – وبطريقة أكثر ضلالاً – الدكتور شفيع السيد. فكتب يقول [٥]:

«.. فضلاً عما اشتهر به الإمام من بلاغة القول ورصانة العبارة ، على نحو لا تستبعد معه نسبة تلك النصوص عليه من حيث تركيبها اللغوي وتشكيلها البياني».

لا شك أن القارىء الكريم قد لفتت نظره عبارة «لا تستبعد نسبة تلك النصوص إليه..». إذن فهو يشكك بنسبتها إليه عليه السلام  ولكنه لا يستبعد  ذلك ، ليس هذا فحسب بل إنه يذهب إلى غمزة أخرى للنيل من «النهج» وصاحبه إذ يقول الدكتور شفيع السيد عن الشيعة:

«إن بعضاً منهم غالي في تقديره له (أي للإمام علي عليه السالم) حتى رفعه إلى مستوى من اصطفاهم الله بالوحي، ومن هؤلاء الرضي نفسه في مقدمته للكتاب ، فقد علل سبقه – رضي الله عنه – في مضمار البيان وتفوقه على كل من عداه من الخطباء والبلغاء؛ بأن كلامه صلى الله عليه واله وسلم «الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي» [٦] .

وعدَ ذلك غلواً من الشيعة وقد  نسي الدكتور شفيع السيد وغيره ، ممن هم على شاكلته في نمط التفكير؛ أن الرسول صلى الله عليه واله وسلم نفسه كان يقول: إن النظر إلى وجه علي عبادة – وقد نقلنا ذلك في مبحث فائت من هذا الجزء – ونسي – هو وغيره – قول الرسول الكريم لعبد الرحمن بن عوف: «يا عبد الرحمن أنتم أصحابي وعلي بن أبي طالب مني وأنا من علي، فمن قاسه بغيره فقد جفاني، ومن جفاني آذاني، ومن آذاني فعليه لعنة ربي ، يا عبد الرحمن إن الله أنزل عليَ كتاباً مبيناً وأمرني أن أبيَن للناس ما اٌنزل إليهم ما خلا علي بن ابي طالب فإنه لم يحتج إلى بيان لأن الله تعالى جعل فصاحته ودرايته كدرايتي».

لا أدري ماذا يقول «السيد» وغيره في «ما خلا» وفي « لم يحتج إلى بيان» وفي «درايته كدرايتي»؟ فأيهما «غالي» أكثر الشيعة – ومنهم الرضي في «مسحته»و«عبقته» - أم الرسول صلى الله عليه واله وسلم في ما نقلنا؟. 

إن قليلاً من التأمل وقليلاً من الركون إلى  الحق وقليلاً من الخروج إلى دائرة الضوء تجعلهم يقولون الحق وينظرون إلى الأشياء بمنظار الحق والإنصاف فلا يغمزون ولا يلمزون .

إن علي ابن أبي طالب عربي وإنه إبن عم الرسول وكاتب وحيه وربيب بيته ورفيقه في حله وترحاله، أكثير على كلامه أن تكون فيه «مسحة العلم الإلهي وعبقة من  الكلام النبوي»؟ ألا يدعو ذلك إلى الفخر أن عربياً ومسلماً وقريباً من الرسول صلى الله عليه واله وسلم يحمل إلينا هذا المعطى العظيم والفكر الخلاَق في بلاغة وفصاحة ومنهج علمي ثابت ، وينبري عربي آخر ، بل ومسلم؛ ومن البيت نفسه إلى جمع هذا المعطى في كتاب أسماه «نهج البلاغة» أليس ذلك مما يجب ان نفخر به ؟ أم لأنه حظي بما لم يحظ به أي كتاب قبله وبعده من اهتمام المؤلفين والشراح؟

وقد بلغت شروحه (٧٥) شرحاُ بقول الاميني في غديره [٧] و (١٠١) شرحاً بقول الشيخ عبد الزهراء الخطيب الحسيني [٨]. ولم تقتصر الشروح تلك على الشيعة ، بل كان معظمهم من غير الشيعة . وليس كما ذهب الدكتور شفيع السيد إلى القول «إن معظم شراح «نهج البلاغة » هم من الشيعة » [٩].

لنترك قول الشريف الرضي ولنقرأ قول الشيخ محمد عبده، الذي هو ليس (شيعياً) ولا من (أهل البيت)، إذ يقول: «وليس في أهل هذه اللغة إلاَ قائل بأن كلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله وكلام نبيه، وأغزره مادة وأرفعه اسلوباً وأجمعه لجلائل المعاني» [١٠]. 

أما الدكتور زكي نجيب محمود ، وهو مثل الشيخ محمد عبده في المذهب، يقول: «ونجول بأنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام علي التي اختارها الشريف الرضي (٩٧٠ - ١٠١٦ م ) وأطلق عليها ( نهج البلاغة) ؛ لنقف ذاهلين امام روعة العبارة وعمق المعنى، فإذا حاولنا ان نصنف هذه الأقوال تحت رؤوس عامة تجمعها؛ وجدناها تدور - على الأغلب - حول موضوعات رئيسة ثلاثة ، هي نفسها الموضوعات الرئيسة التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء ألا وهي: الله والعالم والإنسان.

إذن فالرجل - وإن لم يتعمدها - فيلسوف بمادته ، وإن خالف الفلاسفة في أن هؤلاء قد غلب عليهم ان يقيموا لفكرتهم نسقاً يحتويها على صورة مبىأ ونتائجه، وأما هو فقد نثر القول نثراً في دواعيه وظروفه» [١١] .

في الحقيقة إن بذرة التشكيك بذرها إبن خلكان إذ قال عن «نهج البلاغة»: «إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه» [١٢].

وأيده في ذلك الصفدي في الوافي بالوفيات [١٣] ، واليافعي في مرآة الجنان [١٤]، وإبن حجر في لسان الميزان [١٥]

يبدوأن بذرة إبن خلكان قد نمت وصارت شجرة ولكنها شائكة فتفيأ في ظلالها بعض كتابنا الذين عزعليهم أن يكون علي ابن أبي طالب عليه السلام وهو قائل  كلام «نهج البلاغة»، فصاروا يرددون أقوال إبن خلكان وغيره ممن تابعوه من القدماء ؛ فجرجي زيدان يقول: « إنا كنا نرى أن كثيراً من تلك الخطب ليس لعلي بدليل اختلاف الاسلوب ومخالفة ما فيها من المعاني لعصره» [١٦].

وظل شوقي ضيف يتراجع في كلامه «يبدوأن النهج قد دوَخه» فراح يخبط خبط عشواء؛ فمرة يقول : «إن عليا قد خلف خطبا كثيرة » واخرى يقول : «ان – النهج – من وضع الرضي » ولكي يعزز قوله هذا ويدعمه يقول : « ان الوضع على علي أقدم من عصر الشريف بل من عصر المسعودي».

أية «حزَورة» هذه التي «حزرها» شوقي ضيف؟

أما محمود محمد شاكر فقد قال: وهو يرد على قول الدكتور زكي نجيب محمود، «لننظر كم اجتمع في هذا الرجل (يعني الإمام علي عليه السلام) من أدب وحكمة وفروسية وسياسة» قال محمود محمد شاكر: «ألم يكن أسلم له في طريقه (ويريد الدكتور زكي نجيب محمود) أن يسأل وأن يحاول ان يفكر على الاقل حتى يتثبت من صحة نسبة ما في هذا  الكتاب من الأقوال إلى علي رضي الله عنه؟ إنه إذا بطل ان يكون هذا الكلام صحيح النسبة إلى علي ، كان استخراج صورة علي منه ضرباً من العبث» [١٧] . 

ولكن محمود محمد شاكر هذا لم يكتفِ بما قال إذ اراد أن يؤكد شيئاً آخر في نفسه ظل يتغرغر به زمناً طويلاً فقال: «إن النظرة الأولى إلى جملة ما في الكتاب من الكلام ، تقطع بأن كثرته الكاثرة لم تجرٍ على لسان علي رضي الله عنه إلاَ أقل من العشر..» [١٨].

وهنا سيتنفس محمود محمد شاكر الصعداء بعد أن يؤكد «إن إبن سلام عندما شرح غريب ما في النهج لم يكن فيه من كلام علي عليه السلام ربع من حديث عمر» [١٩].

وهنا خرجت الغرغرة وارتاح الرجل لهذه المقارنة التي جهد لها في مقاله ، فـ «ربع حديث عمر» هي ركيزة المقال ومقصوده .

وعلى غرار بعض الكتاب الذين يوردون جملة من الأدلة أو التعداد بقولهم : «وغيرها وغيرها» أو«وما إلى ذلك» أو«الخ..».

وهكذا  فعل محمود محمد شاكر وهو يحاول ، جاهداً تأكيد بطلان «كون ما في النهج لـ (علي بن أبي طالب عليه السلام)» فقال: «وهناك أدلة أخرى على بطلان نسبة ما في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين» [٢٠] لأنه عجز أن يورد «أدلة أخرى» كأنه أدرك أن ما أورده من «أدلة» لم تقم حجة على «بطلان» نسبة ما في النهج إلى الإمام بل قامت دليلاً على بطلان كلامه هو، وأعني كلام محمود محمد شاكر، ولأنه أدراك ذلك أراد أن «يستغفر» لنفسه ويكفر عنها هذا الخطأ في المنهج «العلمي» في تناول موضوعات كهذه أسرع إلى القول ، ولكنه قول مبطن أيضاً .  

فقال: «فكتاب كهذا الكتاب ، يدل صريح العقل والنظر وصريح النقل والتثبت على أنه كتاب قريب النسب..» [٢١] .

وممن يعني هذا القرب بالنسب؟ هل من الإمام علي عليه السلام أم من الشريف الرضي رحمه الله؟.

هكذا«غلَف» قوله ليموَه على القارىء في نظره . ومع ذلك  فإنه يؤكد أنه «كان غير لائق بالدكتور زكي أن يتسرع إلى التقاطه دون أن يفحصه ويتحرى عنه فيجعل ما فيه من كلام كثير الغثاثة - وقد كتب أكثره بعد دهور متطاولة - ممثلاً لعلي بن ابي طالب وممثلاً للقرن الأول من الهجرة» [٢٢].

سامحك الله يا رجل..! إنك أردت ان تٌعرف بين الناس كـ «كاتب»و«باحث»و«محقق» فشهرت سيفك هذا ولكنه كان سيفاً نابياً فصرت كالبائل في بئر زمزم .. ونحن نقول لك:

«ما هكذا تورد - يا سعد - الإبل». 

إذ إنك أردت أن تتواصل مع إبن خلكان في تشكيكه بصحة نسبة النهج إلى الإمام علي عليه السلام ولكنك، وابن خلكان وغيركما كثير، ركبتم افراساً كبت وشهرتم سيوفاً نبت، فبقيتم في صحرائكم تلهثون وماء زمزم تنشدون ، حتى قيض الله لكم من يرشدكم أن بئر زمزم لا يجعل من أيَ منكم «رسولاً» كمحمد بن عبد الله صلى الله عليه واله وسلم ولكنكم بقيتم تغطون وجوهكم بغربال لئلاً ترون شمس الحقيقة ، وإلاً ماذا يعني قول الدكتور شفيع السيد إن «نسبة الشريف الرضي -جامع الكتاب - إلى البيت العلوي.. يمكن أن تكون مدعاة للشك ودافعاً إلى الإتهام بالتحيز والتعصب .. وقد قال عنه بعض واصفيه: كان شاعراً مفلقاً فصيح النظم  ضخم الألفاظ .. وكان مع هذا مترسلاً كاتباً بليغاً متين العبارات، فمن اليسير على مثله إذن أن يؤلف من الكلام ما يشاكل كلام علي رضي الله عنه في جزالة الألفاظ ومتانة السبك [٢٣].

إن الدكتور شفيع السيد مثل «ربعه» يغالط نفسه، بل يدينها من فمه ، كيف؟ 

إذا كان يعترف أن الشريف الرضي «شاعر مفلق»و«فصيح النظم» و«ضخم الألفاظ»و«كاتب بليغ»و«متين العبارة» فماذا يمنعه أن ينسب ما في النهج إلى نفسه ليحلق بشهرته في سماء الأدب والفكر أكثر؟ نحن نعرف ، والدكتور يعرف أن ثمة من ينشدون الشهرة يسطون على هذا العمل الإبداعي أو ذاك لينسبوه إليهم لأنهم قاصرون أن يأتوا بمثله ونحن قد اعترفنا بعدم قصور الشريف الرضي ، بل وتمكنه من ادواته ، فما الداعي أن ينسب كلاماً لنفسه وهو لغيره؟ هذه  أول إدانة للدكتور الفاضل ..! وثاني إدانة أنه اعترف أن كلام الإمام علي عليه السلام يتسم بـ «جزالة اللفظ ومتانة السبك» ، إذن ، إذا ما جاء به الشريف الرضي «جزل اللفظ ومتين السبك» فما يمنع أن يكون للإمام علي عليه السلام؟ بل أليس الأقرب والأكثر معقولية أن يكون له عليه السلام الفكرية والأدبية ، وقد مر بنا شيء منها كثير لا يقبل الطعن.

ولكنه بئر زمزم ..! يا له من بئر مغرٍ قصَاده الواهمين..! الحاملين على أكتافهم مقولة : «خالف تعرف».

 لعلهم وجدوا خيطاً هنا وخيطاً هناك فشدوا أنفسهم بهما حتى وإن كانا من خيوط العنكبوت، ليتأرجحوا فيراهم الناس وبذلك يحققون الشهرة التي يريدون والمجد الذي ينشدون.

وكان أحد الخيوط العنكبوتية ما ذكره ابن ابي الحديد وهو يختم « شرح نهج البلاغة» بكلمات حكيمة قصار ، إذ قال: «ونحن الآن ذاكرون ما لم يذكره الرضي مما نسبه قوم إليه، وبعضه ليس بذلك المشهور ولكنه قد روي عنه وعزي إليه ، وبعضه من كلام غيره من الحكماء لكنه كالنظير لكلامه، والمضارع لحكمته، ولما كان ذلك متضمناً فنوناً من الحكمة نافعة راينا أن لا نخلي هذا الكتاب منه، لأنه كالتكملة والتتمة لكتاب «نهج البلاغة»، وربما وقع في بعضه تكرار يسير شذ عن أذهاننا التنبه له لطول الكتاب، وتباعد أطرافه، وقد عددنا ذلك كلمة كلمة فوجدناها ألف كلمة» [٢٤].

فراحوا يشككون بالنهج كله فيدَعون بأنه ليس من كلام الإمام علي عليه السلام. 

وبذلك حاكوا ابن خلكان الذي بذر بذرة التشكيك الأولى - كما ذكرنا - إذ قال في وفيات الأعيان ٣/٣: «وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي رضي الله عنه ، هل جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل إنه ليس من كلام علي ، وأنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه ».

كما حاكى - من قبل - كل من الصفدي «الوافي بالوفيات» واليافعي في «مرآة الجنان» وابن حجر في «لسان الميزان» وغير أولئك من القدامي والمحدثين منهم  الذهبي في «الميزان الاعتدال ١٥/١٠١» في ترجمة الشريف الرضي: أنه هو المتهم بوضع «نهج البلاغة»، ثم قال: «ومن طالع كتابه «نهج البلاغة» جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي، ففيه السب الصريح، والحط على السيدين أبي بكر وعمر..الخ».

ومنهم محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمته لشرح النهج إذ يقول :

«إن في الكتاب من التعريض بصحابة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لا يسلم أن يصح صدوره عن مثل الإمام علي».

وأنكر آخرون أن يكون النهج للإمام علي عليه السلام بسبب ما فيه من ذكر «الوصي والوصاية» [٢٥] ، أو طول بعض الخطب والكتب ، كالقاصعة والأشباح ، وعهد مالك بما لم يك مألوفاً في صدر الإسلام [٢٦]. 

والسجع قام دليلاً آخر - عندهم - على نسبته إلى الإمام عليه السلام إذ « لم يعهده عصر الإمام ولا عرفه ، وإنما طرأ  ذلك على العربية بعد العصر الجاهلي وصدر الإسلام وافتتن به أدباء العصر العباسي ، والشريف الرضي جاء من بعد ذلك على ما ألفوه فصنف الكتاب على نهجهم وطريقتهم» [٢٧].

ليس ذلك فحسب بل الوصف ودقته دليلهم الآخر على ذلك  الإكتشاف «الذرَي» إذ أن «فيه استفراغ صفات الموصوف ، وأحكام الفكرة ، وبلوغ النهاية في التدقيق كما تراه في وصف الخفاش  والطاووس ، والنملة والجرادة ، وكل ذلك لم يلتفت إليه علماء الصدر الأول ولا أدباؤه ولا شعراؤه، وإنما عرفه العرب بعد تعريب كتب اليونان والفرس الأدبية والحكمية، ويدخل في هذا استعمال الألفاظ الإصطلاحية التي عرفت في علوم الحكمة من بعد ، كالأين والكيف ونحوهما ، وكذلك استعمال الطريقة العددية في شرح المسائل، وفي تقسيم الفضائل أوالرذائل مثل قوله (ويعني الإمام علي عليه السلام): «الاستغفار على ستة معانٍ» و«الإيمان على أربع دعائم» «والصبر واليقين والعدل والجهاد، والصبر منها على أربع شعب» [٢٨] . و« علم الغيب» كان ركيزتهم الأخرى في هذا الاكتشاف ، لانهم وجدوا في الكتاب ما يشَم منه ريح ادعاء صاحبه علم الغيب، وهذا أمر يجل عن مثله مثلم علي ومن كان على شاكلة علي ممن حضر عهد الرسالة ورأى نور النبوة [٢٩]. 

ثم ماذا بعد هذا ؟ هل انتهى ما في جعبتهم من «أدلة..!»؟

كلا، فهم أخذوا عليه «ما فيه من الحث على الزهد، وذكر الموت ، وقرض الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام [٣٠] و«وصف الحياة الاجتماعية على نحو لم يعرف إلا في عصور متأخرة ، ترى في هذه الخٌطب طعناً شديداً على الوزراء والحكام والولاة والقضاة والعلماء في السلوك والأخلاق ، وفي الذمم والضمائر، واصفاً القضاة بالجهل وعدم المعرفة بأحكام الشريعة» [٣١].

ثم إن بعض ما روي عن علي في (نهج البلاغة) عن غيره في غيره، كقوله:

«كان لي فيما مضى أخُ عظَمه في عيني صغر الدنيا في عينيه». وهذا مرويَ عن ابن المقفع. وكقوله: «الدنيا دار مجاز..» يُروى لسحبان وائل [٣٢].

وأخيراً : «خلو الكتب الادبية من كثير مما في (نهج البلاغة)» [٣٣].

-----------------------------------------------------
[١] . تاريخ آداب اللغة العربية ١/١٨١ و ٢/٢٨٨ .
[٢] . تاريخ الأدب العربي ٢/٦٤ .
[٣] . شرح النهج لابن أبي الحديد  ١/٤   .
[٤] . مجلة الكاتب المصرية العدد ١٧٠ مايو ١٩٧٥ م / ٣٠ -٣١ .
[٥] . مجلة الهلال العدد ١٢/السنة ١٩٨٣ / ٩٥ .
[٦] . المصدر السابق نفسه/ ٩٥ .
[٧] . الغدير ٤/١٦٤- ١٦٩ .
[٨] . مصادر نهج البلاغة وأسانيده. لعبد الزهراء الخطيب ١/٢٤٨ و ٣١٣ .
[٩] . مجلة الهلال العدد ١٢/١٩٨٣/٩٦ .
[١٠] . من مقدمة نهج البلاغة شرح محمد عبده ١/٥ .
[١١] . المعقول واللامعقول في التراث العربي / ٣٠ .
[١٢] . وفيات الأعيان لابن خلكان ٢/٣ .
[١٣] . المصدر السابق نفسه ٢/٣٧٥ .
[١٤] . المصدر السابق نفسه ٢/٥٥ .
[١٥] . المصدر السابق نفسه ٤/٢٢٣ .
[١٦] . تاريخ اداب اللغة العربية ٢/٢٨٨ .
[١٧] . مجلة الكاتب العدد ١٧٠ ، ١٥ مايو ١٩٧٥/٣٠ .
[١٨] . المصدر السابق نفسه/ ٣٠ .
[١٩] . المصدر السابق نفسه/ ٣١.
[٢٠] . المصدر السابق نفسه/ ٣١ .
[٢١] . المصدر السابق نفسه/٣١ .
[٢٢] . المصدر السابق نفسه/٣١ .
[٢٣] . مجلة الهلال العدد ١٢ السنة ١٩٨٣/ ٩٥ – ٩٦ .
[٢٤] . شرح النهج ٤/٤٢٠ .
[٢٥] . أثر التشيع في الأدب العربي/٦٦ .
[٢٦] . المصدر السابق نفسه/ ٥٦ والإمام علي لأحمد زكي صفوة/١٣١ .
[٢٧] . مقدمة محمد محيي الدين عبد الحميد لشرح النهج .
[٢٨] . المصدر السابق نفسه .
[٢٩] . المصدر السابق نفسه .
[٣٠] . أنظر التشيع في الأدب العربي / ٦٠-٦١ .
[٣١] . المصدر السابق نفسه/ ٦٦ .
[٣٢] . ترجمة علي بن أبي طالب - أحمد زكي صفوة .
[٣٣] . المصدر السابق نفسه /١٢٢ .

منقول من كتاب المشككون بنهج البلاغة والرد عليهم

****************************