![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/besmellah.png)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/mola.png)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/fi_rahab.jpg)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/haram.jpg)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/nahj.jpg)
الثابتون والمنهزمون في أحد..
لم يثبت غير علي (عليه السلام) :
وقد تضاربت الروايات في عدد الذين ثبتوا مع رسول الله "صلى الله عليه وآله"، في أُحد وتبدأ من واحد.. حتى تصل إلى ثلاثين رجلاً..
والصحيح: أن علياً "عليه السلام" هو الذي ثبت وحده مع رسول الله "صلى الله عليه وآله"، وانهزم الباقون، ثم صاروا يرجعون إلى القتال واحداً تلو الآخر، فالظاهر: أن كل راجع كان يخبر عمن وجدهم مع رسول الله "صلى الله عليه وآله"، ممن سبقوه إليه، متخيلاً أنهم لم يفروا عنه.
ويدل على أن علياً قد ثبت، وفرَّ سائرهم:
١ ـ ما روي عن ابن عباس: لعلي أربع خصال: هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله "صلى الله عليه وآله"، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف، وهو الذي صبر يوم المهراس (يعني يوم أحد)، انهزم الناس كلهم غيره، وهو الذي غسله وأدخله قبره [١].
٢ ـ وقال القوشجي: "فانهزم الناس عنه سوى علي إلخ.." [٢].
٣ ـ وقالوا: كان الفتح يوم أحد بصبر علي "عليه السلام" [٣]. فلو كان معه غيره لذكر معه.
٤ ـ إن من يذكرون أنهم ثبتوا في أحد، قد ورد التصريح بفرارهم فيها، فراجع في ذلك الجزء السابع من كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم "صلى الله عليه وآله" في فصل: نصر وهزيمة، من ص١٧٣ حتى ص١٩٠.
٥ ـ قال زيد بن وهب لابن مسعود: انهزم الناس عن رسول الله حتى لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب "عليه السلام"، وأبو دجانة، وسهل بن حنيف؟!
قال: انهزم الناس إلا علي بن أبي طالب وحده، وثاب إلى رسول الله "صلى الله عليه وآله" نفر، وكان أولهم عاصم بن ثابت، أبو دجانة، وسهل بن حنيف، ولحقهم طلحة بن عبيد الله.
قلت: فأين كان أبو بكر وعمر؟!
قال: كانا ممن تنحى.
قلت: فأين كان عثمان؟!
قال: جاء بعد ثلاثة أيام من الواقعة، فقال له رسول الله "صلى الله عليه وآله": لقد ذهبت فيها عريضة.
قال: فقلت له: فأين كنت أنت؟!
قال: كنت في من تنحى.
قال: فقلت له: فمن حدثك بهذا؟!
قال: عاصم، وسهل بن حنيف.
قال: قلت له: إن ثبوت علي في ذلك المقام لعجب.
فقال: إن تعجبت من ذلك، لقد تعجبت منه الملائكة، أما علمت أن جبرئيل قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء:
لا سـيـف إلا ذو الـفـقـــار ***** ولا فــتــى إلا عــــــلي
فقلت له: فمن أين علم ذلك من جبرئيل؟!
فقال: سمع الناس صائحاً يصيح في السماء بذلك، فسألوا النبي "صلى الله عليه وآله" عنه، فقال: "ذاك جبرئيل" [٤].
٦ ـ عن سعيد بن المسيب، قال: لو رأيت مقام علي يوم أحد لوجدته قائماً على ميمنة رسول الله "صلى الله عليه وآله"، يذب عنه بالسيف، وقد ولى غيره الأدبار [٥].
٧ ـ وعن أبي جعفر "عليه السلام" في مناشدات علي لأهل الشورى: نشدتكم بالله، هل فيكم أحد وقفت الملائكة معه يوم أحد حين ذهب الناس غيري؟!
قالوا: لا [٦].
٨ ـ وقال "عليه السلام" لبعض اليهود عن حرب أحد: "وبقيت مع رسول الله "صلى الله عليه وآله"، ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة" [٧].
٩ ـ وعن أنس: أن الذين ثبتوا في أحد هم واحد من المهاجرين، وسبعة من الأنصار. وقتل هؤلاء السبعة كلهم [٨].
ومن الواضح: أن عاصم بن ثابت أبا دجانة لم يكن مهاجرياً أيضاً، وفي سح السحابة: أن الأنصار قتلوا جميعاً كما في تاريخ الخميس ج١ ص٣٤٦.
ومن الواضح: أن هذا المهاجري ليس إلا علي بن أبي طالب "عليه السلام"، كما أن الرواية دلت على أن بعض المهاجرين والأنصار حين فروا في أحد ذهبوا إلى منازلهم، وليس كلهم.
لا سيف إلا ذو الفقار:
وإن مناداة جبرئيل بـ "لا سيف إلا ذو الفقار الخ.." لها مغزى عميق أيضاً، فإنها تأتي تماماً في مقابل ما فعله أولئك المهاجرين الذين فروا، وجلسوا يتآمرون ـ هل يرسلون ابن أبي لأبي سفيان ليتوسط لهم عنده؟
أم أن أبا سفيان لا يحتاج إلى وسيط، إذ إن شافعهم عنده كونهم من قومه، وبني عمه.
أم أنهم يرجعون إلى دينهم الأول؟!
فتداول الأمور بهذا النحو يدل على أن سيفهم لم يكن خالصاً لله، بل كان ذو الفقار سيف علي أمير المؤمنين "عليه السلام" وحده خالصاً لله، ولا سيف خالصاً لله سواه.
وهذا السيف هو الذي قال عنه أمير المؤمنين "عليه السلام" في رسالته إلى بعض عماله، يتهدده على تلاعبه بأموال الأمة: "ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار" [٩]. لأنه لا يقتل به إلا مستحقها، ولأجل هذا صار لهذا السيف شرف ومجد، وتفرد من بين سائر السيوف بأنه في يد علي الذي هو نفس النبي "صلى الله عليه وآله".
كما أن أمير المؤمنين "عليه السلام" هو الذي كان الله ورسوله، وجهاد في سبيله، أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه؛ وجراحه الكثيرة جداً شاهد صدق على ذلك.
أما غير علي "عليه السلام"، فقد كانت نفسه ـ بدرجات متفاوتة طبعاً ـ أحب إليه من الله ورسوله، وجهاد في سبيله. ولأجل ذلك تخلوا عن ذلك كله، حينما رأوا أنفسهم في خطر. بل لقد هم بعضهم بأن يتخلى حتى عن دينه، حيث قال: "إرجعوا إلى دينكم الأول"!.
بل نجد بعضهم كانت عشيرته الكافرة أحب إليه من الله ورسوله، وجهاد في سبيله، ومن دينه؛ فنراه يقول: "نلقي إليهم بأيدينا، فإنهم قومنا وبنو عمنا" [١٠].
ويلاحظ: أن ذلك الكلام كان من المهاجرين على وجه العموم!!.
كما أن أولئك كلهم لا فتوة لهم، ولا رجولة عندهم، وعلي "عليه السلام" وحده هو الفتى، لأنه هو الذي يملك نفسه، ولا تملكه نفسه، أما هم، فإن نفوسهم تملكهم؛ فتهلكهم.
السيف لأبي دجانة:
وذكروا: أنه "صلى الله عليه وآله" أخذ سيفاً، وقال: من يأخذ هذا السيف بحقه، فطلبه الزبير، وغيره، وفي نصوص أخرى: طلبه أبو بكر وعمر، وتضيف رواية الينابيع: علياً "عليه السلام".. فلم يعطهم إياه.
فسأله أبو دجانة: ما حقه؟!
فقال: أن تضرب به العدو حتى ينحني.
فطلبه منه، فأعطاه إياه، فجعل يتبختر بين الصفين.. إلخ.. [١١].
ونقول: نحن لا ننكر وجود شجعان في جيش المسلمين الذين حضروا حرب أحد وغيرها، ولكننا نشك كثيراً في صحة هذه الرواية عن أبي دجانة، لأكثر من سبب:
أولاً: إن الطريقة التي تدعي هذه الرواية أن النبي "صلى الله عليه وآله" إتبعها في هذه القضية غير مفهومة لنا.. فإن قوله: من يأخذ هذا السيف بحقه، يقتضي أن يعطيه لأول شخص يطلبه. إلا إذا كان فراراً في المواطن، وقد أثبتت المواقف المختلفة جبنه وأنه ليس من أهله، ولا يأخذه بحقه.
ولكن الطريقة المنسوبة للنبي "صلى الله عليه وآله" لم تكن كذلك، بل يبدوا أنه قد أراد أن يعطي ذلك السيف لشخص أو لأشخاص، كان قد عيّنه واختاره، أو عينهم واختارهم لها مسبقاً..
ثانياً: لو صح أنه "صلى الله عليه وآله" منعهم ذلك السيف لجاز لهم الإعتراض "صلى الله عليه وآله" بالقول: بأي حق توجه إلينا هذه الإهانة، ونحن لم نقترف ذنباً؟! ولماذا تستدرجنا إلى هذا الإمتحان غير المنصف الذي أدنتنا وأسقطتنا وأهنتنا فيه قبل أن تعطينا الفرصة للتصرف، لترى كيف تكون حالنا فيه؟!
فما هذه المفارقة الغريبة، وما هذا التصرف غير المنصف، الذي نسبوه إلى النبي المعصوم، وهو أشرف الخلق، وأكرم البشر على الله سبحانه؟!
ثالثاً: إن ذكر علي "عليه السلام" في هذه الرواية لا مبرر له، لأن النصر الذي تحقق في حرب أحد ـ كما في حرب بدر ـ إنما تحقق على يد علي "عليه السلام".. كان ما جرى في بدر يكفي لإعطاء الإنطباع الواضح عما لعلي "عليه السلام" أن يفعله في ذلك السيف، وعن أنه هو الوحيد القادر على أن يأخذه بحقه، دون كل أحد.. فلماذا يمنعه وقد طلبه منه؟!
فالمطلوب من حشر إسم علي "عليه السلام" بين هؤلاء هو التغطية على فرار الزعماء الذين تمكنوا من استلاب الخلافة من صاحبها الشرعي بعد إستشهاد رسول الله"صلى الله عليه وآله".
فلو فرض أن لهذه القضية أصلاً، فلا بد:
أولاً: أن يكون قد أعطاه لأبي دجانة مباشرة، أي من دون أن يقول: من يأخذ هذا السيف بحقه.. أي أنه "صلى الله عليه وآله" أخذه وأعطاه إياه وشرط عليه أن يؤدي حقه..
ثانياً: لا بد أن نستبعد علياً "عليه السلام" عنها، لأنه "عليه السلام" كان يعلم أنه ليس هو المقصود للنبي "صلى الله عليه وآله".. وأن ندرك أن حشر إسمه الشريف هنا إنما هو لأجل التغطية على غيره..
وهناك تفاصيل ومناقشات أخرى لهذه الرواية المزعومة، ذكرناها في كتابنا الصحيح من سيرة النبي "صلى الله عليه وآله" (الطبعة الخامسة) ج٥ ص١٢٦ ـ ١٢٩. فمن شاء فاليرجع إليه.
ذو الفقار جريدة نخل يابسة:
عن علي "عليه السلام" قال: انقطع سيفي يوم أحد، فرجعت إلى رسول الله "صلى الله عليه وآله"، فقلت: إن المرء يقاتل بسيفه، وقد انقطع سيفي.
فنظر إلى جريدة نخل عتيقة يابسة، مطروحة، فأخذها بيده، ثم هزها، فصارت سيفه ذا الفقار، فناولنيه، فما ضربت به أحداً إلا وقده بنصفين [١٢].
وفي نص آخر: أنه لما شكى علي "عليه السلام" انقطاع سيفه، دفع إليه رسول الله "صلى الله عليه وآله" سيفه ذا الفقار، فقال: قاتل بهذا. ولم يكن يحمل على رسول الله "صلى الله عليه وآله" أحد إلا استقبله أمير المؤمنين "عليه السلام"، فإذا رأوه رجعوا.
فانحاز رسول الله "صلى الله عليه وآله" إلى ناحية أحد، فوقف، وكان القتال من وجه واحد، وقد انهزم أصحابه، فلم يزل أمير المؤمنين "عليه السلام" يقاتلهم حتى أصابه في وجهه، وصدره وبطنه، ويديه ورجليه تسعون جراحة، فتحاموه، وسمعوا منادياً من السماء:
لا سـيـف إلا ذو الـفـقـــار ***** ولا فــتــى إلا عـــلي
فنزل جبرئيل على رسول الله "صلى الله عليه وآله"، فقال: يا محمد، هذه والله المواساة إلخ [١٣]..
ونقول:
لا بأس بالتذكير هنا بالأمور التالية:
ذو الفقار في بدر أيضاً:
يظهر من الروايات المتقدمة أن علياً "عليه السلام" حصل على ذي الفقار في أُحد.. مع أن الروايات تقول بمنادات جبرائيل: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي في بدر قبل أُحد.. فلعل الرواية قصرت في بيان المراد، وأن ما جرى في أُحد هو إعادة لسيف ذو الفقار إليه بمعجزة إلهية.. على النحو الذي ذكرته الرواية.. وتكرمة ربانية.
عرجون بن جحش:
إن هذا الذي ذكرناه يضع علامة استفهام حول صحة ما يذكر، من أن سيف عبد الله بن جحش انقطع، فناوله "صلى الله عليه وآله" عرجوناً (وهو أصل العذق الذي يعوج، وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابساً [١٤]) فعاد سيفاً، حيث يبدو لنا: أن المقصود بوضع هذا النص هو التخفيف من وهج سيف ذي الفقار، الذي يقال إنه كان في الأصل جريدة نخل عتيقة يابسة، فصارت سيفاً، هو ذو الفقار، فإن القضية هي نفسها تلك، ولكن بدلت الأسماء فيها، لتضيع الحقيقة فلا يعرف صاحب القصة الحقيقي، هل هو علي "عليه السلام" أو عبد الله بن جحش..
وقد عودنا شانئوا علي "عليه السلام" على أن يغيروا باستمرار على فضائله وكراماته، ثم يمنحونها لهذا أو ذاك..
يزيد شكنا بقصة عرجون بن جحش: أنهم تارة يذكرون أن أهل عبد الله بن جحش ما زالوا يتوارثون هذا السيف، ويسمى (العرجون)، حتى بيع لبغا التركي بماءتي دينار، وأخرى يذكرون: أن رسول الله "صلى الله عليه وآله" ولي تركة عبد الله بن جحش، واشترى منها سيفه العرجون، فاشترى لأمه مالا بخيبر.
ويزيد الأمر إشكالاً: أن قصة العرجون كما تذكر لعبد الله بن جحش، فإنها تذكر أيضاً لعكاشة بن محصن في واقعة بدر [١٥].
فأي ذلك هو الصحيح؟!.
الجهاد في ظل الكرامة الإلهية:
إن انقطاع سيف علي "عليه السلام" في بدر أو في أحد، فناوله النبي "صلى الله عليه وآله" جريدة صارت ذا الفقار، معناه: أن ظهور الكرامة والتدخل إنما كان في خارج دائرة الإختيار، وفي منأى عن الجهد الحربي، الذي يفترض أنه في عهدة المقاتلين، فبقي علي "عليه السلام" هو المطالب بإقتحام المهالك، ومقارعة الأبطال..
وهذا يجعلنا نفهم الكرامة هنا على أنها جذوة إيمانية متوهجة، تتفاعل معها روح الإنسان المجاهد.. وزيادة بصيرة، ويقين، وبلورة للوعي العقائدي لديه، ثم هي إيذان بالرعاية الإلهية وإعلان الرضا الرباني.
ذو الفقار نزل من السماء:
وقد تحدثت الروايات: عن أن ذا الفقار هو سيف هبط به جبرئيل من السماء، وكانت حليته من فضة [١٦].
وهذا لا ينافي حديث الجريدة التي تناولها الرسول، فصارت ذا الفقار. فلعل جبرئيل قد أتى بهذه الجريدة بالذات لتظهر فيها هذه الكرامة الإلهية، لتؤثر الأثر الذي يتوخاه الله ورسوله منها.
وعن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ} [١٧] قال: أنزل الله آدم من الجنة، ومعه ذو الفقار، خلق من ورق آس الجنة (فيه بأس شديد) فكان يحارب به آدم أعداءه من الجن والشياطين، وكان عليه مكتوباً: لا يزال انبيائي يحاربون به، نبي بعد نبي، وصديق بعد صديق إلخ [١٨]..
قال ابن شهرآشوب: وقد روي كافة أصحابنا أن المراد بهذه الآية ذو الفقار [١٩].
ذو الفقار.. من اليمن:
روي عن علي "عليه السلام": أن جبرئيل "عليه السلام" أخبر النبي "صلى الله عليه وآله" أن باليمن صنماً من حجارة، مقعَّد في حديد، فبعث علياً "عليه السلام" إلى اليمن فجاء بالحديد، فدفعه إلى عمر الصقيل، فضرب منه سيفين: ذا الفقار، والمخذم [٢٠].
وهذا لا يصح، لأن علياً إنما ذهب إلى اليمن في أواخر حياة رسول الله "صلى الله عليه وآله"، وقد نادى جبرئيل بذي الفقار، وبعلي، في بدر وفي أحد، أي قبل ذهابه "عليه السلام" إلى اليمن بعدة سنوات.
إلا إن كان علي "عليه السلام" قد سافر بصورة غير معلنة، فقام بمهمة خاصة ورجع.
لأنتم أولى بالقتل!! :
ويحدثنا عمر عن رعبه الدائم من علي بن أبي طالب "عليه السلام"، لأنه رأى علياً "عليه السلام" في حرب أحد كالليث يتقي الذر، إذ حمل كفاً من حصى، فرماه في وجوهنا ثم قال: شاهت الوجوه، وقطت، وبطت، (أي قطعت وشقت) ولطت، إلى أين تفرون؟! إلى الناس؟!. فلم نرجع.
ثم كر علينا الثانية، وبيده صفحة يقطر منها الموت، فقال: بايعتم ثم نكثتم؟! فوالله، لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل.
فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً، أو كالقدحين المملوأين دماً، فما ظننت إلا ويأتي علينا كلنا، فبادرت إليه من بين أصحابي، فقلت: يا أبا الحسن، الله، الله، فإن العرب تفر وتكر، وإن الكرة تنفي الفرة، فكأنه استحيا، فولى بوجهه عني [٢١].
وقد ذكرنا هذه الرواية بتمامها فيما يأتي حين الحديث عن علي "عليه السلام" في خلافة عمر.. وعلقنا عليها هناك بما لعل من المفيد الرجوع إليه، فإلى هناك.
علي (عليه السلام) يروي بطولات سعد!! :
ويزعمون: أن سعد بن أبي وقاص كان رامياً، وقد رمى في أحد بين يدي رسول الله "صلى الله عليه وآله" حتى اندقت سية قوسه، وكان "صلى الله عليه وآله" يناوله النبل، ويقول: إرم فداك أبي وأمي [٢٢].
ورووا عن علي "عليه السلام" أنه قال: ما سمعت النبي "صلى الله عليه وآله" جمع أبويه لأحد إلا لسعد [٢٣].
ونقول: إننا لا نرتاب في كذب هذه المزاعم، وقد تحدثنا عن ذلك في الجزء السابع من كتاب الصحيح من سيرة النبي الأعظم، في فصل في موقع الحسم.. غير أننا نشير هنا إلى ما يلي:
١ ـ لماذا صبر المشركون كل هذا الوقت الذي استغرقه سعد في رميه حتى اندقت سية قوسه، ولم تكن لهم ردة فعل او هجمة تدفع عنهم غائلة سهامه؟!
أم أن سهامه لم تكن تصل إليهم؟!
أم أنها وصلت إليهم ولم تصبهم؟!
أم أنهم ابتعدوا عن مداها، حتى لم تعد إصابتها ذات تأثير يعتد به؟!
فإن كان كذلك فلماذا واصل الرمي، وفرط في سهامه؟!
وأين كان رماة المشركين الذين كانوا أضعاف عدد رماة المسلمين عن المقابلة بالمثل؟!
أم أن المشركين لم يحملوا معهم أقواساً ولا سهاماً، فانفرد بهم سعد؟!
ولماذا لم يسم لنا التاريخ أياً من الذين أصابتهم سهام سعد، ولا ذكرت لنا عدد من قتل أو جرح بها؟!
٢ ـ إن أمير المؤمنين إن كان قد قال ذلك عن سعد، فإنما قاله ليثبت له فضيلة به ليست لا حد سواه.. وهذا يفرض عليه أن يتحقق من كون النبي "صلى الله عليه وآله" قد فدا أحداً بأبويه غير سعد. ولا يكتفي بالاخبار عن عدم سماعه منه ذلك فإن عدم سماعه "عليه السلام" لا يدل على عدم صدور ذلك من النبي "صلى الله عليه وآله"، فلماذا لم يسأل الصحابة الآخرين، إن كانوا سمعوا شيئاً من ذلك قد قاله النبي "صلى الله عليه وآله" لغير سعد، لكي يخبروه بأنه "صلى الله عليه وآله" ـ كما يزعم ابن الزبير ـ قد قال للزبير يوم قريظة: فداك أبي وأمي؟! [٢٤].
وإن كنا نحن لا نصدق ذلك أيضاً، لأن ما فعله الزبير، وهو أنه أخبر النبي "صلى الله عليه وآله" بأمر بني قريظة، لا يستدعي أن يقول له النبي "صلى الله عليه وآله" فداك أبي وأمي..
ولعلك تقول: قضية سعد سابقة على قضية الزبير، فلعله "صلى الله عليه وآله" قد قال ذلك لسعد ولم يكن قال ذلك لأحد غيره قبل حرب أُحد..
ونجيب: بأن هنا الحديث أنما صدر بعد مرور سنوات على واقعة أُحد، فهو يخبر عن أنه لم يسمع النبي "صلى الله عليه وآله" فدا أبويه لأجل أحد قبل أحد و بعدها.
٣ ـ إن سعد بن أبي وقاص لم يكن يستحق هذه الفضيلة، ولا غيرها من الأوسمة التي منحوه إياها، فإنه كان من المناوئين لأمير المؤمنين "عليه السلام"، حتى لقد كتب "عليه السلام" لوالي المدينة: أن لا يعطي سعداً من الفيء شيئاً [٢٥].
وحينما دخل عليه سعد يطالبه بعطائه رده بعد كلام طويل، ولم يعطه شيئاً [٢٦].
وحينما دعاه عمار إلى بيعة سيد الوصيين، أظهر سعد الكلام القبيح [٢٧].
وأيضاً: فقد صارمه عمار المعروف بجلالة مقامه وعلو شأنه [٢٨].
وفي عهد عمر أخذ من بيت المال مالاً ولم يؤده، وعزله عمر عن العراق، وقاسمه ماله [٢٩].
وكان ممن قعد عن علي "عليه السلام" وأبى أن يبايعه، فأعرض عنه "عليه السلام"، وقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُعْرِضُونَ} [٣٠]" [٣١].
وسعد هو أحد الستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، فوهب حقه لابن عمه عبد الرحمن بن عوف [٣٢].
وشكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر بأنه لا يحسن يصلي [٣٣].
إذاً، فلعل انحراف سعد عن علي "عليه السلام"، وممالأته لأعدائه هو الذي جعل له هذا المقام، ورزقه هذه الفضائل والكرامات.
الله أعلى وأجل:
وحين نادى أبو سفيان بعد انتهاء حرب أحد: أعل هبل.. أمر النبي "صلى الله عليه وآله" علياً بأن يجيبه بقوله: الله أعلى وأجل..
فقال: يا علي، إنه قد أنعم علينا.
فقال علي "عليه السلام": بل الله أنعم علينا..
ثم قال: يا علي، أسألك باللات والعزى، هل قتل محمد؟!
فقال علي "عليه السلام": لعنك الله ولعن اللات والعزى، والله ما قتل، وهو يسمع كلامك إلخ..
وفي نص آخر: إن أبا سفيان قال: إن ميعادنا بيننا وبينكم موسم بدر في قابل هذا الشهر.
فقال رسول الله "صلى الله عليه وآله": قل: نعم.
فقال: نعم.
وفي نص آخر: إن أبا سفيان قال: أنعمت.
فقال: إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر.
فقال علي "عليه السلام": لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار [٣٤].
وقيل: إنه "صلى الله عليه وآله" أمر عمر بأن يجيب بذلك، وعلمه ما يقول [٣٥].
ولعل كلا الأمرين قد حصلا، أي أنه "صلى الله عليه وآله" أمر علياً بأن يبلغ عنه، فبادر عمر أيضاً إلى الإجابة من عند نفسه..
ولعل رواية أبي هلال العسكري، تشير إلى ذلك، حيث ذكرت: أن عمر أجاب أبا سفيان، ولم تذكر أن النبي "صلى الله عليه وآله" أمره بذلك، أو علمه إياه [٣٦].
غير أن الظاهر هو: أن أبا سفيان بعد أن سمع جواب علي "عليه السلام": لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.. عدل عن توجيه الخطاب لعلي ليوجهه إلى عمر، مصرحاً باسمه، فقال حسب رواية العسكري: إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب.
فقال: إنها(١)[٣٧].
وهي إجابة لا يمكن قبولها من عمر، حيث إن ظاهرها أنه يوافق أبا سفيان على ما قال.
وإجابة علي "عليه السلام" بتعليم من النبي "صلى الله عليه وآله" هي الحق والصواب بعينه، لتضمنها تقويض اعتزاز أبي سفيان بنتائج الحرب، ولأنها أوضحت: أن المعيار في الفلاح والنجاح ليس هو النتائج التي تحصل في الدنيا، بل المعيار في الوقوف على قيمة ما حصل في الدنيا هو آثاره في الآخرة..
وهي هنا عكس ما يتمناه أبو سفيان والمشركون، فإن قتلى المسلمين في الجنة، فلا خوف عليهم، وقتلى المشركين في النار، فهم الخاسرون الحقيقيون.
الوصول إلى المهراس فضيلة:
وعن أبي جعفر "عليه السلام" في حديث مناشدة علي "عليه السلام" لأهل الشورى قال "عليه السلام": نشدتكم بالله، هل فيكم أحد سقى رسول الله "صلى الله عليه وآله" من المهراس غيري؟!
قالوا: لا [٣٨].
وهذا يدل على عدم صحة قول ابن الأثير وابن إسحاق في الحديث: "إنه "صلى الله عليه وآله" عطش يوم أحد، فجاء علي بماء من المهراس، فعافه، وغسل به الدم عن وجهه" [٣٩].
ولعل الأوضح والأقرب إلى الإعتبار هو ما روي عن أبي عبد الله "عليه السلام"، من أن النبي "صلى الله عليه وآله" قال: يا علي أين كنت؟!
قال: يا رسول الله، لزقت بالأرض (أي لم أفر، ولم أتحرك من مكاني).
فقال: ذلك الظن بك.
فقال: يا علي، ائتني بماء أغسل عني.
فأتاه في صحفة (ولعل الصحيح: جحفة)، فإذا رسول الله "صلى الله عليه وآله" قد عافه، وقال: ائتني في يدك.
فأتاه بماء في كفه، فغسل رسول الله "صلى الله عليه وآله" عن لحيته [٤٠].
ومعنى ذلك: أنه "عليه السلام" قد أتى بالماء من المهراس مرتين:
إحداهما: ليشرب رسول الله "صلى الله عليه وآله".
والأخرى: ليغسل النبي "صلى الله عليه وآله" وجهه.
وحين جاءه بالماء ليغسل وجهه عاف الماء الذي كان في الجحفة أو الصحفة، وطلب منه أن يأتيه بماء آخر في كفه. فأتاه به.
ولكن يبقى أن نشير إلى أن المجيء بالماء من المهراس، لا بد أن تكون له خصوصية تجعل منه أمراً يكون التفرد به فضيلة يمكن المناشدة بها، ومن حيث إمتناع الآخرين عن المجيء بالماء من المهراس، ربما لخوفهم من وجود كمين للمشركين، وكان علي "عليه السلام" وحده هو المستجيب له دونهم.
يتبع ......