أمثلة ونماذج
أ ـ من الأمر
قوله: «فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حُثالة القَرَظِ»، وقوله: «فاعتبروا بما أصاب الأممَ المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته. واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم، واستعيذوا بالله من لواقح الكِبْر، كما تستعيذون من طوارق الدهر». وقوله: «ليتأسَّ صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم».
ب ـ ومن النهي
قوله: «فلا تجلعنَّ للشيطان فيك نصيباً، ولا عن نفسك سبيلاً»، و قوله: «ألا وإن الآخرة قد أقبلت، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا». و قوله: «لاتقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقَّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه». و قوله: «لا تُرَخِّصوا لأنفسكم، فتذهب بكم الرَّخص مذاهب الظلمة، ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعية... ولا تَحاسدوا، فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النارُ الحطب، ولا تَباغضوا، فإنها الحالقة». و قوله: « فلا يغرنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنما هو ظل ممدود، إلى أجَل معدود ». و قوله: «فإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا». و قوله: «عباد الله، لا تركنُوا إلى جهالتكم، ولا تنقادوا إلى أهوائكم ». و قوله: «لا يؤنِسنّك إلاّ الحقّ، ولا يوحشنَّك إلاّ الباطل»، وقوله: «فلا تنفروا من الحق نفارَ الصحيح من الأجرب». وقوله: « فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفَّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقَّ قيل لي... فلا تكفّوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل».
ج ـ ومن الاستفهام
قوله: «أبعد إيماني برسول الله صلّى الله عليه وآله، وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر؟! لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين!». وقوله: «أصبحت والله لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم ، ولا أُوعد العدوَّ بكم. ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما طبّكم ؟! القوم رجال أمثالكم. أقولاً بغير علم ؟ وغفلة من غير ورع ؟ وطمعاً في غير حق ؟!». وقوله: «أيها الناس، إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنّة أوقى منه.. ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثرُ أهله الغدرَ كيْساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حُسن الحيلة. ما لهم ؟ قاتلهم الله! قد يرى الحُوّل القُلَّب وجه الحيلة، ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها مَن لا حريجة له في الدين» [١].
وقوله: «هل يُحسّ به ـ ملك الموت ـ إذا دخل منزلاً ؟ أم تراه إذا توفّى أحداً ؟ بل كيف يتوفّى الجنين في بطن أمه ؟ أيلج عليه من بعض جوارحها ؟ أم الروح أجابته بإذن ربها ؟ أم هو ساكن معه في أحشائها ؟ كيف يصف إلهَه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟!». وقوله: «أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، والأبصار اللامحة إلى منازل التقوى ؟ أين القلوب التي وُهِبَتْ لله، وعوقدت على طاعة الله ؟!».
د ـ ومن الترجّي
قوله: «فاسمعوا قولي، وعُوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تُنتضى فيه السيوف». و«لعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة». وقوله: «لا تعجل في عيب أحد بذنبه؛ فلعلّه مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية، فلعلّك معذّب عليه». وقوله: «هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة! ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القُرص، ولا عهد له بالشِّبع».
هـ ـ ومن التمنّي
قوله: «يا أشباه الرجال ولا رجال، لَوددتُ أنّي لم أركم، ولم أعرفكم». وقوله: «قد دارستكم الكتاب، وفاتحتكم الحجاج، وعرّفتكم ما أنكرتم، وسوَّغتكم ما مججتم، لو كان الأعمى يلحظ، أو النائم يستيقظ».
وـ ومن النداء
قوله: «أيها الناس، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة..». وقوله: «فاتقوا الله عباد الله، وفِرّوا إلى الله من الله». وقوله: «أيها الناس المجتمعةُ أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يُوهي الصمَّ الصِّلاب، وفعلكم يُطمِعُ فيكم الأعداء». وقوله: «أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن كنود».
زـ ومن القسَم
(قوله: «والله ما أنكروا عليَّ منكراً، ولا جعلوا بيني وبينهم نَصَفاً». وقوله: «أما والله ما أتيتكمُ اختياراً، ولكن جئت إليكم شوقاً». وقوله: «ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم، لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقةِ لاعق». وقوله: «أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر.. لألقيتُ حبلَها على غاربها..». وقوله: «لعمري، لو كنا نأتي ما أتيتُم ما قام للدين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عود.. وايمُ الله، لتحتلبُنّها دماً، ولتتبعُنَّها ندماً». وقوله: «والله لو قتلتم على هذا دجاجة لَعظُم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلُها عند الله حرام ؟!».
ح ـ ومن التعجب
قوله: «سبحانك ما أعظم شأنك! سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك! وما أصغر كلّ عظيمة في جنب قدرتك! وما أهَولَ ما نرى من ملكوتك! وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك! وما أسبغَ نعمَك في الدنيا، وما أصغرَها في نِعم الآخرة!». وقوله: «استتمّوا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته، فإن غداً من اليوم القريب!». و قوله: «ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر!». وقوله: «فيا عجباً! عجباً والله يميت القلب، ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرّقكم عن حقّكم». وقوله: «فيا عجباً للدهر إذ صرتُ يُقرنُ بي من لم يَسعَ بقَدَمي، ولم تكن له كسابقتي..».
٦. السجع والترسُّل:قوله في إحدى خطبه: «فلْيقبل امرؤ كرامة بقبولها، وليحذر قارعة قبل حلولها، ولينظر امرؤ في قصير أيامه، وقليل مُقامه في منزل حتّى يستبدله به منزلاً، فليصنع لمتحوّله، ومعارف منتقله. فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، وتجنّب من يُرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصرِ من بَصَّره، وطاعة هاد أمره، وبادر الهُدى قبل أن تُغلق أبوابه، وتُقطَع أسبابه، واستفتح التوبة، وأحاط الحَوْبة، فقد اُقيم على الطريق، وهُدِيَ نهج السبيل». وقوله: «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والقلم بالمأثور، والكتاب المسطور، والنورِ الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحة للشبهات، واحتجاجاً بالبيّنات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثُلات، والناس في فتنٍ انجَذمَ فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النَّجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعَميَ المصدر، فالهدى خامل، والعَمى شامل..». ومن قوله لما أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال: «إنّا لم نُحكّم الرجال، وإنما حكّمنا القرآن، هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفّتين، لا ينطق بلسان، ولابد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال. ولمّا دعانا القوم إلى أن نُحكّم بينا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى عزّ من قائل: فإنْ تنازْعتُم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرسول ، فردُّه إلى الله أن نحكم بكتابه، وردُّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحقُ الناس به، وإن حكم بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله فنحن أحق الناس وأولاهم بها. وأما قولكم: لمَ جعلتَ بيننا وبينهم أجلاً في التحكيم ؟ فإنما فعلتُ ذلك ليتبين الجاهل، ويثبت العالم، ولعل الله أن يُصلح في هذه الهُدنة أمر هذه الأمة، ولا تؤخذ بأكظامها..» [٢].
وقوله: «من ترك الجهاد في الله، وأدهَنَ في أمره، كان على شفا هُلكه، إلاّ أن يتداركه الله بنعمة. فاتقوا الله، وقاتلوا من حادَّ الله، وحاول أن يطفئ نوره. قاتلوا الخاطئين الضالّين القاسطين المجرمين الذين ليسوا بقرّاء للقرآن، ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام. والله لو وَلّوا عليكم لعملوا فيكم أعمال كسرى وهرقل. تيسّروا وتهيأوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة لِيقْدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم، شخصنا إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله».
٧. التوازن: كثيراً ما تجيء الجُمل في نهج البلاغة متوازنة، بأن يتساوى عدد كلماتها، أو تتماثل أوزان نهاياتها، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير، ويحبّب إلى السمع، ويقرّبُه إلى الذوق [٣].
ومن الموازنة قول الإمام عليّ عليه السّلام: «لم يَؤدْه خلقُ ما ابتدأ، ولا تدبير ما ذرأ، ولا وقفَ به عجزٌ عمّا خلق، ولا ولَجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر، بل قضاء متقن، وعلم مُحكم، وأمر مبرم..». وقوله: «إنّ غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة، لجديرة بقِصر المدة. وإن غائباً يَحْدره الجديدان الليل والنهار،لحريّ بسرعة الأوبة. وإن قادمة يقدم بالفوز أو الشِّقوة، لمستحق لأفضل العدة. فيا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة، وأن تؤديه أيامه إلى الشِّقوة! نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تُبطره النعمة، ولا تُقصِّر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحلُّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة». وكذلك قوله: «إنّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتد حزنهم وإن فرحوا، ويكثر مقتهم أنفسَهم وإن اغتبطوا بما رُزقوا..».
وقد يجيء التوازن في داخل الجمل لا في نهاياتها، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها، مثل قوله: «الحمد لله غيرِ مقنوط من رحمته، ولا مخلوّ من نعمته، ولا ميؤوس من مغفرته، ولا مستنكَف عن عبادته، الذي لا تبرح منه رحمة، ولا تُفقَد له نعمة»، فإنّ هنا موازنةً بين مقنوط ومخلوّ وميؤوس.
٨. الجناس، الطباق، والمقابلة، والتوشع.. كما استعرض الدكتور الحوفيّ أمثلة عديدة عن الخيال البياني في خطب الإمام عليّ بن أبي طالب ورسائله ـ وما تعتمده من (التشبيه) و (الاستعارة) و (الكناية) و (المجاز) ـ وهي عُدّة الشاعر والخطيب والكاتب، التي برع فيها الإمام عليّ براعة منقطعة النظير، في شتى شؤون المعرفة، والعقل، والنفس، وفي مختلف قضايا البشر، والدين والدنيا.
مزيّة خاصة
إنّ نهج البلاغة ـ كما يقول ابن أبي الحديد ـ إذا تأملته، «وجدتَه كلَّه ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية».. وهو ـ في عظمته الأسلوبية ـ يحتوي على عبقرية الحُسن اللفظي، تلك العبقرية التي تتمثل في علاقة اللفظة بالأخرى، والتي تَرِد في خطب، وفقرات ممتازة التميّز، تأخذ فيها اللفظة بعنق قرينتها، جاذبة إياها إلى نفسها، دالة عليها بذاتها».
وذلك باعتراف جعفر بن يحيى، الذي كان من أبلغ الناس وأفصحهم، كما رأى الجاحظ. قال الجاحظ: حدثني ثمامة، قال: سمعت جعفر بن يحيى ـ وكان من أبلغ الناس وأفصحهم ـ يقول: الكتابة بضم اللفظة إلى أختها، ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر ـ وقد تفاخر ـ: أنا أشعر منك، لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابنَ عمه. ثم وناهيك حسناً بقول عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: «هل من مناص أو خلاص، أو معاذٍ أو ملاذ، أو فرار أو محار» [٤].
قال أبو عثمان (الجاحظ): وكان جعفر يُعجَب أيضاً بقول الإمام عليّ عليه السّلام:
«أين من جدّ واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيّد، وفرش فمهّد، وزخرف فنجّد ؟!».
قال: «ألا ترى أنّ كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها، جاذبةٌ إياها إلى نفسها، دالّة عليها لذاتها».
وقد روى هذا كلَّه أيضاً ابن مسكويه في كتابه (الحكمة الخالدة) بأسلوب آخر عن جعفر بن يحيى، والفقرات التي حكى الجاحظ إعجاب جعفر بن يحيى بها، وهي (هل من مناص أو خلاص.. إلخ) هي من بعض فصول هذه الخطبة.
أما الفقرات التي اُعجب بها جعفر وهي (أين من جد واجتهد.. الخ) فهي من خطبة أخرى ذكرها ابن عبد ربه في (العِقد الفريد).
وأوّلها: أوصيكم عبادَ الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته، وبتقديم العمل، وترك الأمل، فإنه من فرَّط في عمله، لم ينتفع بشيء من أمله...».
النص الوصفي
إنّ ذكاء الإمام عليّ بن أبي طالب النادر، كان يستعين بذاكرة قوية، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة، وأخبار البشر، وأوصاف الأشياء، وكانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة، بسمات الشيء الباطنة، قبل الظاهرة.
وبفعل ذلك، كان وصفُه يتغلغل إلى عمق الظاهرة أو الصفة، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى، والصفة بالأخرى، ليقدّم رؤية شاملة، تضع الجزئي في موضعه الحقيقي ضمن العام، وتضع البعض ضمن الكل. وبما أن أبلغ وصف هو ذلك الذي ينقل الصور البليغة للأشياء ويعكسها بأجمل تعبير، وأقوى إيحاء، وأدق وصف، وأجلى تعبير، فإنّ سحر البيان الذي أوتيَهُ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، كان يجعل من عملية الانعكاس الوصفي قِطعاً فريدة من النصوص الوصفية التي تفخر بها العربية.
ومثل شأن الإمام عليّ عليه السّلام، في معرفته بالعلوم اللغوية، والفقهية، والشرعية، والعسكرية، كانت الفنون الأسلوبية المميِّزة لقدرته البلاغية، والمجسِّدة لفكره الثاقب، تجعله مبدعاً في ميادين الأساليب المتعددة. فهو يقدم النص الوصفي بالقدرة الرائعة، التي يقدم بها النص السياسي، أو الفقهي، أو الأخلاقي. ورغم أن وصف الأشياء يتصل اتصالاً دقيقاً بعملية انعكاس الأشياء نفسها في الذهن، إلاّ أن طبيعة النفس المرهفة، والعقل النير، تجعل من عملية الانعكاس إعادة خلق صوري للموصوف، فيصبح الموصوف (في الصورة البلاغية) يشبه الحقيقة الملموسة للشيء الموصوف، ويتجاوزه بالجمالية الممنوحة إليه من داخل كلمات النص.
إنّ أمير المؤمنين علياً بن أبي طالب كان يستنطق الصفات، واهباً إياها المقدرة على أن تستعرض نفسها، بشفّافية أكثر.
لقد تميز: «بقوة ملاحظة نادرة، ثمّ بذاكرة واعية تخزن وتتّسع، فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذّي فكره، وتقوّي خياله، فتسهل عليه محاكمة الأشياء والمقارنة بين عناصرها لإثبات أرجحها وأفضلها للبقاء والتعميم.
وحديثه عن الطبيعة بمظاهرها الحية بما يتخللها من قواعد ونواميس حياتية، وما يحكمها من إرادة خفية دقيقة التنظيم والصنع، وكلامه عن السَّحاب والزرع والحيوانات المختلفة المتباينة كالخفاش والطاووس والنملة، وتحليله الأوضاع الاجتماعية والغرائز الإنسانية، يعتبر في ذروة أنموذج التفكير العلمي المبدع المبني على دقة الملاحظة والإدراك الواعي، وهو بذلك كما يقول العقّاد: تلميذ ربّه جلَّ وعلا» [٥].
قال في وصف النملة:
«انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطاقة هيئتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر، ولا بمستدقّ الفِكَر، وكيف دبّت على أرضها وحبَت على رزقها! تنقل الحبة إلى حُجرها وتَعُدها في مستقرها، وتجمع في حرّها لبردها، وفي ورودها لصَدَرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوِفْقها [٦]، لا يُغفلها المنّان، ولا يحرمها الديّان، ولو في الصفا الحجر الجامس [٧]. ولو فكرتَ في مجاري أكلها، وفي عُلوها وسُفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها [٨]، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيتَ من خَلْقها عَجباً، ولقيت من وصفها تعباً. ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف كل حي!».
وقال يصف الخفّاش:
«ومن لطائف صنعته، وعجائب حكمته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي؛ وكيف عشِيتْ أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، ورَدَعها تلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها [٩] ، وأكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلاقها [١٠] ؟!
فهي مُسدلة الجفون في النهار عن أحداقها، وجاعلة الليل سراجاً تستدلّ به في التماس أرزاقها، فلا يردُّ أبصارَها إسداف ظلمته [١١] ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دُجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضِّباب [١٢] في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلّغت [١٣] بما اكتسبت من فيء ظلَم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرجُ بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان غير ذوات ريش ولا قصب، إلاّ أنك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاماً لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا، ولم يغلظا فيثقلا؛ وولدها لاصقٌ بها لاجيء إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتّى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه، فسبحان الباري لكل شيء على غير مثال خلا من غيره».
وقال يصف الجرادة:
«وإن شئتَ قلتُ في الجرادة، سإذ خلق الله لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين [١٤]، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، وبابين بهما تقرِض، ومنجلين بهما تقبض [١٥]، يرهبها الزُّرّاعُ في زرعهم ولا يستطيعون ذبَّها [١٦] ولو أجلبوا بجمْعهم، حتّى ترد الحرثَ في نزواتها [١٧]، وتقضي منه شهواتها، وخَلْقُها كله لا يكون إصبعاً مستدقة!».
وقال في وصفه للطاووس:
«يمشي مشي المَرِح المختال، ويتصفح ذنَبه وجناحيه، فيقهقه ضاحكاً لجمال سِرْباله وأصابيغ وِشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا مُعْولاً.. وقد نجمت عن ظُنبوب ساقه صِيصيةٌ خفية، وله في موضع العُرف قُنْزُعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغْرَزُها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبَّسة مرآة ذات صقال..» [١٨].
وقال ينفي زعْم من يقول: إن الطاووس يلقح أنثاه بدمعة تذرفها عينه، فتشربها أنثاه فتحمل: «ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتَي جفونه، وأنّ أنثاه تطْعم لذلك، ثم تبيض لا من لقاحِ فحلٍ سوى الدمع المنبجس، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب» [١٩].
ومن كلام له في الأرض:
قال رداً على زعم أن الأرض تدور على قرن ثور: «وأنشأ الأرضَ فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم».
وقال في تكوين الجبال:
«وجبل جلاميدها، ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قراراتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست أصولها في الماء. فأنهدَ جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عماداً، أرزّها فيها (أي ثبّتها) أوتاداً، فسكنت على حركتها (أي رغم حركتها) عن أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها»
خاتمة
إن النص النثري للإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه ، اكتسب فوائد عظمى من الثقافة القرآنية له عليه السّلام في المضمون وفي الشكل، وكان كثير الاستشهاد بالقرآن الكريم وبالحديث النبوي، وكان كثير الاستشهاد بالشعر، لأنه كان شاعراً بطبيعته. وفي ذلك يقول العقاد:
«وعندي أنّه رضي الله عنه كان ينظم الشعر ويحسن النظر فيه، وكان نقده للشعراء نقدَ عليم بصير، يعرف اختلاف مذاهب القول واختلاف وجوه المقابلة والتفضيل على حسب المذاهب، ومِن بصره بوجوه المقابلة بينهم أنه سُئل: مَن أشعر الناس؟ قال: «إن القوم لم يَجْروا في حلقة تُعرف الغاية عند قَصَبتها، فإن كان لابدّ فالملِك الضِّليل».
وهذا فيما نعتقد أول تقسيم لمقاييس الشعر على حسب «المدارس» والأغراض الشعرية بين العرب، فلا تكون المقابلة «إلاّ بين أشباه وأمثال، ولا يكون التعميم بالتفضيل إلاّ على التغليب».
ومن أمثلة استشهاده بالشعر ما جاء في قوله بعد خديعة التحكيم:
وقد كنتُ أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلْتُ لكم مخزون رأيي، لو كان يُطاع لقصيرٍ أمر، فأبيتم علَيّ إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العُصاة، حتّى ارتاب الناصح بنُصحه، وضنَّ الزَّنْدُ بقدحه، فكنتُ أنا وإياكم كما قال أخو هوازن:
أمرتكمُ أمري بُمنعَرج اللِّوى ***** فلم تستبينوا النصحَ إلاّ ضُحى الغدِ
وجاء في خطبته.. وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، استشهاده بقول الشاعر:
لَعمرُ أبيك الخيرِ يا عمرُو إنّني ***** على وَضَرٍ من ذا الإناء قليلِ
وبقول أبي جندب الهذلي:
هنالك لو دعوتَ أتاكَ منهم ***** فوارسُ مثلُ أرميةِ الحميمِ
وختم خطبته عند مسيره للقتال في البصرة بقوله: «والله ما تنقم منا قريش إلاّ أنّ الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيِّزنا، فكانوا كما قال الأول:
أدمتَ لعمري شُربكَ المحضَ صابحاً ***** وأكلكَ بالزُبْدِ المقَشَّرَةَ البُجرا
ونحنُ وهبناك العلاء ولم تكن ***** عليّاً، وحُطْنا حولك الجرْدَ والسُمْرا
ومن هذا كتابه إلى معاوية: «أمّا بعد، فإنك قد ذُقت ضرّاء الحرب وأذَقْتَها، وإني عارضٌ عليك ما عرضَ المخارق على بني فالج:
أيا راكباً إمّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ***** بني فالج حيث استقرّ قرارُها
هلمّـوا إلينا لا تكونوا كأنكم ***** بلاقعُ أرضٍ طار عنها غبارُها
سليمُ بن منصـور أُناس بحرةٍ ***** وأرضهمُ أرضٌ كثيرٌ وِبارُها [٢٠]
ومن استشهاداته الشعرية:
شتانَ ما يومي على كورها ***** ويومُ حيّانَ أخي جابرِ
وتمثله بقول امرئ القيس:
ودع عنك نهباً صِيح في حُجراته ***** (وهاتِ حديثاً ما حديث الرواحلِ)
وكذلك:
(وعيَّرها الواشون أنّي أحبها) ***** وتلك شكاةُ ظاهرٌ عنك عارُها
[والشطرة التي بين قوسين لم يذكرها الإمام عليه السّلام، وإنما هي تتمة البيت]
وقوله:
(وكم سقتُ في آثاركم من نصيحة) ***** وقد يستفيد الظِّنةَ المُتنصِّحُ
وقوله
لبّثْ قليلاً يلحقُ الهيجا حَمَلْ ***** (لا بأسَ بالموتِ إذا الموتُ نزلْ)
كذلك: قال أخو بني سليم:
فإن تسأليني كيف أنتَ فإنني ***** صبورٌ على ريب الزمان صليبُ
يعزُّ علَيَّ أن تُرى بي كآبةٌ ***** فيشـمتُ عادٍ أو يُسـاءُ حبيبُ
ومن كتاب له إلى عثمان بن حُنيف الأنصاري:
وحسبُكَ داءً أن تبيتَ ببطنةٍ ***** وحولَك أكبادٌ تحنّ إلى القِدِّ
وقال يذكر ما قاله أخو بني أسد:
مُستقبِلين رياحَ الصيف تضربهم ***** بحاصب بين أغوارٍ وجُلمودِ
إنّ الشعر يتخلل خطب الإمام عليّ بن أبي طالب ورسائلَه وأحاديثه، لكنّ عظمة نثره ظلت آيةً من آيات الأدب والحكمة والمعرفة، تفيض كنوزها بالتلقّي، فتزدادُ ثراء وتألّقاً.
وصدق إذ قال: «وإنّا لأُمراء الكلام، وفينا تنشّبت عروقه، وعلينا تهدلّت غصونه».
-----------------------------------------------------------
[١] . الحُوَّل القُلّب: المجرِّب المحنّك. الحريجة: الحرج والتقوى.
[٢] . أكظام: جمع كظم، وهو مخرج النفَس.
[٣] . الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام. «والتوازن أو الموازنة بهذا المعنى أعم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد مثل القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل القريب والشهيد والجليل، فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف» ـ المصدر نفسه.
[٤] . محار: مرجع إلى الدنيا بعد فراقها.
[٥] . عليّ محمّد الحسين الأديب: منهج التربية عند الإمام عليّ عليه السّلام.
[٦] . وِفقها: أي بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها.
[٧] . الجامس: الجامد.
[٨] . الشراسيف: أطراف الأضلاع التي تشرف على البطن، والمفرد شرسوف.
[٩] . سَبحات إشراقها: درجات نورها.
[١٠] . البلج: الضوء الواضح، الأتئلاق: اللمعان القوي.
[١١] . إسداف: إظلام.
[١٢] . الضِّباب: جمع ضَبّ.
[١٣] . تبلّغت: تناولت القوت.
[١٤] . قمراوين: مضيئتين.
[١٥] . منجلين: رِجْلين (شبّههما بالمنجلين لاعوجاجهما وخشونتهما).
[١٦] . ذبَّها: دفعها وأبعدها.
[١٧] . نزواتها: وثباتها.
[١٨] . زقا: صوّت. معولاً: صارخاً (أي أنه يزهي بنفسه، فإذا نظر إلى ساقيه أعول حزيناً؛ لأنهما قبيحتان). الظنبوب: حرف الساق. صيصية: شوكة في رِجله. العرف: الشعر المرتفع على عنقه ورأسه. القنزعة: الشعر حول الرأس. الوسمة: العظم الذي يخضب به.
[١٩] . أي أن هذا الزعم كائن أيضاً في الغراب، إذ قالوا: إن تلقيحه يكون بانتقال جزء من الماء المستقر في قانصة الذَكر إلى الأنثى، فتتناوله من منقاره. ومنشأ هذا الزعم في الغراب أنه يخفي تلقيحه.
[٢٠] . الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام.
انتهى .
(منقول من كتاب: عليّ بن أبي طالب ـ سلطة الحق تأليف عزيز السيّد جاسم، ص ٢٨٥ ـ ٣٠٤)