وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                

Search form

إرسال الی صدیق
مقدمة لإعراب نهج البلاغة وبيان معانيه

الاستاذ الدكتور زهير غازي زاهد

كلية الفرقان الجامعة - بابل

الإمام علي وخطب النهج

تحدث الجاحظ في رسالة الأوطان والبلدان، قائلا: "الذي تهيأ وخصّ به آل أبي طالب من الغرائب والعجائب والفضائل ما لم نجده في أحد سواهم. وذلك أنّ أول هاشمي هاشميّ الأبوين كان في الدنيا وُلِدَ لأبي طالب"، كان علي  أول هاشمي من أبوين هاشميين فاجتمعت له خلاصة صفات هذه الأسرة الكريمة التي عُرِفَ بها أعلامها، وكانت ولادته في الكعبة فكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها وهو القائل: "ما أعرف أحدا من هذه الأمة عبد الله بعد نبينا غيري، عبدتُ الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة تسع سنين".

كانت ولادته في الكعبة كأنها إيذانٌ لعهد جديد لها وللعبادة فيها فقد فتح عينيه على الإسلام ونشأ في بيت الرسالة لم يفارق رسول الله  حتى آخر أيامه.

وكان مبكر النضج في القدرة على الفهم وتقدير الأحداث ووعي الحياة بتجاربها المختلفة هذا إلى جانب ما كان للرسول من توجيهه وتعليمه وتلقينه مختلف العلوم والتجارب، ومعايشته القرآن الكريم وبيت الوحي من أول نزوله حتى آخر ما نزل؛ لذلك كان الأكثر فقها والأكثر علما والأكثر زهدا ثم الأكثر شجاعة وفروسية والأكثر عدلا كما كان الأول إسلاما، قال عمر بن عبد العزيز: "أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب"، لذلك أقول ما قاله عز الدين بن أبي الحديد المعتزلي: "وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله، فقد علمتَ أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة اطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر وتوعّدوا مادحيه، حتى حظروا أن يسمَّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموّا، وكان كالمسك كلما سُتِر انتشر عَرْفُه، وكلما كُتِمَ تضوّع نَشْره، وكالشمس لا تُسْتَر بالراح وكضوء النهار إن حُجِبتْ عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة".

لقد كان المجاهد الصادق مع الرسول  منذ أيام الإسلام الأولى،والباذل حياته للدفاع عنه ونشر الإسلام، فكانت مواقفه مشهودة منذ نومه في فراش الرسول حين عزم المشركون على اغتياله، وسيفه معروف فعله منذ معركة بدر الأولى بعد الهجرة ثم أُحُد ثم الخندق، ومواجهة أفرس العرب عمرو بن عبد ودّ، وقد وصفها النبي  قائلا: "لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله" لخطورتها آنذاك ثم تسليمه الراية في واقعة خيبر وقوله فيه: "لأدفعنّ الراية غدا إلى رجل كرار غير فرار يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" وتستمر مواقفه في الحرب والسلم مع النبي حتى وفاته. وبعد وفاته كان الصابر المحتسب في أمر الخلافة،فلم يثر ما فيه تفرق السلمين، وظلت آراؤه الفقهية ومشورته حاضرة في كل معضلة، فكان مرجعا لأبي بكر وعمر في شؤون الفتوى، بل كان مرجعا لسائر الصحابة فهم قد سمعوا قول النبي : "أقضاكم علي"، ورويت للخليفة عمر فيه أقوال منها: "لا بارك الله في معضلة لا تحكم فيها يا أبا الحسن"، وقوله: "لولا علي لهلك عمر"، وبقي في عهد عثمان بن عفان ذلك الناصح في الأحداث التي واجهته حين انتقض أمره بسبب تحكيمه مروان بن الحكم والأمويين في أمور الخلافة وتحكمهم في الرعية، وتبذير المال على غير صالح المسلمين.

وعندما آل الأمر إليه أراد أن يعيد ما انحرف من الأمور إلى صوابها ويقيم العدل والإسلام النبوي، فكان الحكم لديه إشاعة العدل بين الرعية وليس تسلطا عليها وإنما نصرة الحق وخذلان الباطل، فالسلطة لديه أمانة يجب أن تدار على وفق شريعة الله، لذلك أول ما واجه المتحكمين في عهد عثمان من الأمويين والذين أَثْروا من غير وجه حق من القرشيين. بقوله: "الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه".

لقد واجه من قريش ما واجه الرسول منهم في بداية دعوته، فقد قال  في خروجه لقتال أصحاب الجمل في البصرة: "مالي ولقريش والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا لصاحبهم اليوم".

وكان  يوصي ولاته أن لا يتخذوا السلطة سوطا على الناس، وإنما يجب إشاعة العدل والمساواة بينهم.

ففي وصيته لمالك الأشتر قوله: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبةَ لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، وهذا القول وحده نظرية في العدل وسياسية المجتمع بأسمى عقلية متحضرة متنوّرة بنور الإسلام من منبعه. فالحاكم لا يجوز له أن يحول البلاد إلى بستان يستغلها ويسرق أرزاقها ويحرم رعيته منها، وإنما عليه أن يشارك الأمة حياتها بكل ألوانها، لذلك كان يحسب حسابه لأحوال الناس ويفكر بطرق لإشاعة العدل فيهم.

فالدين لديه تفكير بإشاعة العدل قولا وعملا، قال في خطبة له: "أيها الناس إني والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها"، والدين تفكير يقمح جماح الهوى والسيطرة على النفس. قال : "أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟"، وقوله: "أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟"،وقوله: "ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة مَنْ لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع".

لقد كان يكره الغدر، وحين أشيع بين الناس دهاء معاوية والوصول إلى ما يريد بأية وسيلة، قال يصف نفسه: "والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهة الغدر لكنت من أدهى الناس".

كان الإمام بهذه الروح والأخلاق السماوية السامية الإنسان الكامل إنسان المبادئ والقيم العليا. عاش يدافع عنها ويدعو إلى نشرها وتطبيقها حتى اغتالته يد الغدر والإثم في أثناء صلاته في مسجد الكوفة يوم الجمعة في السابع عشر من رمضان سنة ٤٠ من الهجرة.

لقد كان يخرج وليس له من يحرسه مؤمنا بحراسة الله لا حراسة الشُرَط والجند، لقد ظلت روحه الإنسانية ومبادئه خالدة لم يستطع عتاة الأرض من الحكام أن يطفئوا نورها، فنورها موصول بنور الله ونور شريعة الحق.

لقد ظل كلامه وخطبه وحكمه تشيع على ألسن الأدباء والعلماء تلك القيم، وقد جمعت في كتاب "نهج البلاغة" ظلت إلى جانب كلام الله يرفعان صوت القيم الإنسانية عبر العصور يتسلمها جيل عن جيل وعصر عن عصر، فهما الحجة على الأجيال والأمم.

نصوص نهج البلاغة

إن كلام الإمام علي وخطبه وحكمه كانت موضع اهتمام العلماء والأدباء منذ عهده، فكانوا يتذوقونها ويدونونها ويتأثرون بها بالرغم من الحرب الأموية عليه في حياته وبعد حياته، لم تستطع حرب طغاتهم أن تطفئ نور ذكره ولا أن تحجب كلماته عن التداول. فكان العلماء والأدباء يحفظونها ويتداولونها لتربية ملكة البلاغة لديهم. فكان عبد الحميد المقتول سنة ١٣٢ هـ كبير كتاب عصره وكاتب آخر حكام الأمويين حين يسأل ما الذي خرّجه في البلاغة؟ فيجيب: حفظ كلام [علي].

وكان الحسن البصري (ت١١٠هـ) بارع الفصاحة بليغ المواعظ كثير العلم "وجميع كلامه في الوعظ وذم الدنيا أو جلّه مأخوذ لفظا ومعنى من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  فهو القدوة والغاية".

وقد نقل الجاحظ (ت٢٥٥هـ) جملة من نصوص خطبه الطوال وكثيرا من حكمه وأقواله في كتبه، وقد نقلها من كتب مجلدة. وكذا نقل المبرد (ت٢٨٥هـ) في كتابه الكامل مجموعة من خطبه وأقواله، وبعض كلامه  ذكره في كتابه المقتضب.

وذكر المسعودي (ت٣٤٦هـ): "والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة ونيف وثمانين خطبة، يوردها على البديهة، وتداول الناس عنه قولا وعملا".

وقد جمع الشريف الرضي (ت ٤٠٦هـ) ما توصل إليه موثقا من كلامه وخطبه وحكمه القصار في كتاب سماه "نهج البلاغة" اشتمل على ثلثمائة خطبة ومئة رسالة وخمسمائة حكمة.

لقد كان عنوان "نهج البلاغة" وضعه الشريف الرضي بحق، فهو نهج للبلاغة نفسها التي تصدر عنها مناهج البلغاء، وقد وصفه أصدق وصف في مقدمته بقوله: "الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عَبْقَةٌ من الكلام النبوي"، وهذا أبلغ وصف لكلام الإمام  الذي يمتد من القرآن الكريم متصلا بكلام النبي  مستوعبا طاقات الإمام الفكرية والثقافية وعلمه الذي اكتسبه من البيت النبوي، ومن تجارب الحياة.

وقد وصل نهج البلاغة من مراتب الكمال حدا قيلت فيه عبارة مشهورة ومتداولة بأنه كلام دون مستوى كلام الخالق وفوق مستوى كلام المخلوق باستثناء كلام النبي .

لقد كان  في كلامه وخطبه متنوع الأغراض من دون تكلف ولا تصنّع إنما كان يرتجل الخطبة ارتجالا، فإذا هي معبرة أصدق تعبير، وكان مستوى الكلام لديه واحدا ليس فيه اختلاف ومن العبقرية أن كان أسلوبه في كتابته مثل كلامه مرتجلا وأكبر الظن أن هذا الأسلوب الفطري في الكلام المنتظم المتماسك كان في ذهن الجاحظ حين تحدث عن بلاغة الخطيب إذ يصرف همه إلى الكلام "تأتيه المعاني أرسالا وتنثال عليه الألفاظ انثيالا".

وذلك ما وصف ابن أبي الحديد كلامه  قائلا: "وجدته كله ماء واحدا ونَفَسًا واحدا وأسلوبا واحدا".

لقد ظهرت قدرته في الحديث بأي موضوع شاء قد اقتضاه المقام فكان كلامه محكم الصياغة حاضر البديهة يخرج كلامه من أعماقه صادقا ويؤديه منسجما وموضوعه.

قد تكلم في الزهد فكان أزهد الناس، وتكلم في وصف الطبيعة ومظاهرها وفي خلق السماوات والأرضين وفلسفة خلقها وغاية خلقها وخصائص خالقها الذي "ليس كمثله شيء"، وتحدث عن طبائع البشر وحب الدنيا الذي يبعدهم عن السبيل الذي رسمه الإسلام لهم، وقد أبدع في وصف خفايا المخلوقات وإبداع خلقها وأطوار الإنسان وحالاته ومشاعره والتزامه في حياته ثم خلق النملة والخفاش والطاووس... وغيرها.

نحن لا نجد كتابا قد استوعب كل هذا الكم من فنون المعرفة، فهو نهج للفقهاء ونهج للمتكلمين والفلاسفة والأدباء والسياسيين العدول، فكل إنسان يجد فيه ما يغذي فكره ومسيرته لأنه موسوعة معارف وكتاب دين ودنيا.

إنه أول نص ظهر من رحم القرآن الكريم، النص الذي نجد فيه روح القرآن وأساليبه ومناهج تفكيره قد استوعبت ما فيه من حكمة وأحكام وفقه وأساليب إبداع وتساوق مع آياته ذِكْرا حينا وشرحا أحيانا، يتناص مع مضمونها.

ويمكن أن نعده المعبّر عن الخطاب الإسلامي والثقافة النبوية، أعطى للحضارة الإسلامية شكلها ومضمونها أنتجه فكر واع وقدرة فائقة بخصائص فنية وإبداع نادر.

فالإمام علي  نشأ في بيت الرسالة قبل نزول الوحي وبعده وكانت حياته مع حياة الرسول صلوات الله عليه وآله ممتزجة، وكان قد حفظ ما نزل من الوحي على النبي منذ بدئه ووعاه وعمل به معه، وهو الحافظ للقرآن، وقاتل المشركين للإيمان به وبتنزيله، وهو من أوائل كتبة الوحي المخلصين ثم إنه جمع القرآن بعد وفاة الرسول الكريم على أنه كان مجموعا في وسائل الكتابة آنذاك في بيت الرسالة، وليس غريبا أن تتعدد فيه أقوال النبي صلوات الله عليه وآله صريحة بأنه امتداد للرسالة غضة وامتداد لخصائص صاحبها فيخاطبه: "يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، وبمناسبة أخرى بقوله: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وحين برز لعمرو بن عبد ودّ يصفه داعيا له بأنه برز الإيمان كله إلى الشرك كليه، وقوله مخاطبا: "لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق".

فإذا عرفنا هذا ووعيناه عرفنا مدى وعيه وتعبيره عن أسرار النص القرآني ووصف غوامضها في كلامه وخطبه في (نهج البلاغة).

فهما نصان متآخيان لكن الأول نتاج وحي رباني والآخر نتاج فكر وتجربة حياة في بيت ذلك الوحي.

لقد نهض كلامه وخطبه لإعادة الخطاب الإسلامي بعدما اهتز بظهور طبقة ضخمت ثرواتها بغير ما أمر به الإسلام من العدل والمساواة مع استغلال السلطة واستغلال المجتمع والتسلط عليه، فلم تكن نصوص خطب نهج البلاغة وأقوال الإمام علي  خطب حاكم لمحكومين، وإنما كانت بسطا عمليا لنهج القرآن الكريم وتعليمات الرسول العظيم.

لقد جاهد لتجديد خطاب الإسلام النبوي في وجه روح البداوة التي أيقظها التعصب، ولترسيخ قيم الحضارة الإسلامية والتزامها منهج حياة وتفكير وتأمل، لذا واجه الخطاب العلوي كثيرا من العسر في فهمه حدّ الحروب وإراقة الدماء، وبالرغم من كل المصاعب والعقبات ظل الخطاب العلوي باذلا كل غال للحفاظ على القيم النبوية، كما ظل تأثيره يتفاعل على امتداد العصور، ولولا هذا الامتداد النبوي في الخطاب العلوي والتضحية لتثبيته لبلغ الانحراف مداه ولما كان تمييز بين الحق والباطل. لقد كان خطابا لإيقاظ الأفكار وتحريضا لهم ونورا يضيء الآفاق المعتمة.

خصائصه التركيبية

لقد مر بنا أصدق وصف للشريف الرضي لكلام الإمام علي  في مقدمة النهج قائلاً: "الكلام الذي عليه مسحة من العلم الالهي وفيه عَبْقة من الكلام النبوي"، لذلك نحن لا نفصل في حديثنا النص عن مبدعه كما يفصل بعض المناهج وانما النص هنا ومبدعه كيان واحد كاللفظ والمعنى فهما متلازمان.

وقراءة نهج البلاغة تثير آفاقاً فكرية وبنيوية في الصوت والمفردة والعبارة يمتد فيها البحث والأمثلة. أليس كلامه نبتة اخضرت في بيت النبوة وسقيت من كوثرها واحتضنت كتابها حتى تشبعت من علومها وأسرار تعبيرها؟

لذلك وصف بأنه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق.

سنبين جملة من الظواهر اللغوية هنا وبعدها الاسلوبي ونختم ببيان سبب اختيارنا لانجاز عمل في اعرابه وبيان معانيه إلى جانب شروحه بطبعاته الكثيرة.

المستوى الصوتي في التركيب:

يتضح هذا المستوى في تناسق المقاطع اللغوية من الحركات والسكنات للحروف في الكلمة الواحدة أو في تناسقها في سياق العبارة مع غيرها، وهذا التناسق سمّي حديثاً بالإيقاع.

وهو ما كان النقاد العرب والبلاغيون ما يصفونه بمصطلحات مثل السلاسة والعذوبة والحلاوة والطلاوة كما هو في قول الوليد بن المغيرة حين سمع الرسول صلوات الله عليه قرأ آيات من القرآن الكريم انبهر منها فعاد إلى قومه قائلاً في الكلام الذي سمعه: "إنّ له لحلاوة وانّ عليه لطلاوة وإن أسفله لَمُعْذِق، وإن أعلاه لمثمر"فالإيقاع نستطيع تحديده انه تتابع المقاطع اللغوية وانسجامها وايحاؤها بنظام من موسيقى الكلام، وهو ما عبر عنه ابراهيم الموصلي بقوله: "من الأشياء أشياء تدركها المعرفة ولا تحيط بها الصفة".

كان النقاد العرب يصفون المستوى الصوتي وأثره في نصوص المبدعين دون تسميته وقد تفنن عبد القاهر الجرجاني في الحديث عن اعجاز القرآن وبديع نظمه.

وقارئ نصوص نهج البلاغة قراءة فنية يحس بهذا التناغم الايقاعي في مفرداته وفي سياقها، وهو ايقاع توازن لا ايقاع وزن. فايقاع التوازن تتصف به النصوص النثرية العالية في تناسق مقاطعها اللغوية وترتيب مفرداتها في التركيب. أما ايقاع الوزن فهو الايقاع الذي يتصف به الشعر.

وفرق ما بين الايقاعين: أن الأول تتابع وتناسق وتوازن في مقاطعه، وليس شرطاً أن يتوحّد هذا التتابع وإنما يتنوع بإيقاعاته في المفردة أو بتماثله في نهايات الجمل بسجعاتها.

أما ايقاع الوزن في الشعر فيستمر في كل بيت من القصيدة وإن انتهى كل بيت بقافية موحّدة، لكن الأبيات الأخرى يستمر التتابع نفسه دون تغيير وإلا انكسر الوزن.

فهو "كلام يستغرق التلفظ به مُدَداً من الزمن متساوية الكمية" هذا في شعرنا القديم، أما في الشعر الحديث فمنه ما يلتزم بوحدة الايقاع دون وحدة القافية، ومنه ما سمّي بالقصسدة الايقاعية (قصيدة النثر) وهو ما يزال عائما بين الشعر والنثر.

نجد أحياناً ايقاع التوازي في سياق الكلام مع ايقاع التوازن في سجعة النهايات. فالتوازي هو تساوي الجمل وتشابه سجعها. أما التوازن فالايقاع مع توازن سجعاتها كما في قوله  في ابتداء خلق السموات والأرض: "لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصى نعمائه العادّون، ولا يؤدي حقه المجتهدون،الذي لا يدركه بُعْدُ الهمم، ولا يناله غرض الفِطَن، الذي ليس لصفته حدٌّ محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود.".

فالجمل الأولى تنتهي بسجعات متوازية (القائلون، العادون، المجتهدون) كما أن أطوالها متوازنة ومتوازية. ثم تأتي سجعات متوازنة أي مقاطعها اللغوية متساوية (الهمم، الفطن) ثم يعود إلى السجعات المتوازية.

هذا الاتساق الموسيقي يعطي للنص سلاسة في القراءة، وتأثيراً في التلقي. كذلك نجده يقدم ما حقه التأخير ليتسق السجع ويخفّ السياق، فيقدم شبه الجملة على متعلقها لأهميته: " أنشأ الخلق انشاءً، وابتدأه ابتداء بلا روية أجالها ولا تجربة استفادها.." وقوله  في موضع آخر: "وعلى كتاب الله تعرض الأمثال، وبما في الصدور تجازي العباد" وقوله: "بهم سارت أعلامه وقام لواؤه." وأحياناً يتقدم شبه الجملة مع الضمير العائد على متأخر للاتساق في قوله: "وجرت على أذالها السننُ".

ونجد تناسق الايقاع أحياناً يكون باستخدام الأصوات استخداماً موحياً،وهي حالات نادرة في اصغائه لجوهر اللغة، كتكراره الشي في قوله  لأصحابه في ساحة صفين: "وكأنّي أنظر إليكم تكَشون كشيش الضِّباب، لا تأخذون حقاً ولا تمنعون ضباً"، فتكرار الشين أربع مرات في فعل ومصدره المؤكد يوحي بالأصوات والضجيج غير المجدي.

وقوله في حثهم على الجهاد فسكتوا: "ثم أخرج في كتيبة اتبع أخرى، أتقلقل تقلقل القِدْحِ في الجفير الفارغ"، فتكرار القاف يوحي بمحاكات الحدث الذي هو في صدده.

وكقوله في خطبة له لما بويع في المدينة: "..ألا وان بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيّه، والذي بعثه بالحق لَتُبَلبِلُنّ بلبلةً ولَتُغرْبلُنّ غربلة.." فتكرار الباء مع نون التوكيد تجعل اللسان يضطرب في نطقها يحاكي الخلط والاضطراب الواقع فيهم. وأحياناً يكون التناسق بتكرار الصيغ وتنابعها كما في قوله ينصح أصحابه ويذكر من يحب: " قومٌ واللهِ مِيامين الرأي، مراجيح الحِلم، مقاويل بالحق، متاريك للبغي. مضوا قدماً على الطريقة، وأوجفوا على المحجة.."

وكتكراره نداء الدعاء في الاستسقاء وتكرار النون المشددة تحاكي أنين المتألمين: "اللهم قد انصاحت جبالنا واغبّرت أرضنا.. اللهم فارح أنين الآنّة،وحنين الحانّة، اللهم فارحم حيرتها في مذاهبها.. اللهم خرجنا اليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين" وكلمة "حدابير" لها رنين يوحي بقسوة السنين.

وتكراره النداء التعجبي في خطبته: " فيا عجباً عجباً -والله- يميت القلب ويجلبُ الهم"، هذا النوع من العبارات وتكرار مقاطعها وايقاعاتها في تركيبها نراه هنا وفي القرآن الكريم له دلالات موحية بمعان غير المعاني المعجمية،والنصان متعانقان في أساليبهما، فالأول وحي إلهيّ والآخر نشأ وتشبع بثقافة وروح ذلك الوحي.

المستوى التركيبي:

 الجملة في النظام النحوي مكونة من ركنين هما: فعل واسم في الجملة الفعلية، واسمان في الجملة الاسمية قرينتهما الاسناد، وقد يربط أحد الركنين حرف، ولكن في العربية تراكيب لا تدخل في هذا التقسيم إلا بتأويل وتقدير بعيدين، نحو تركيب النداء والذي يتكون من حرف، واسم، وعبارة القسم،وعبارة الخالفة (اسم الفعل) والمصدر المنصوب، وألفاظ التنزيه.

وإنّ تقسيم النحويين للجملة كان على وفق تركيبها، لكن البلاغيين قسموها بحسب وظيفتها إلى الخبر والانشاء. فالخبر يشمل الجملة المثبتة والمؤكدة والمنفية. أما الإنشاء فيشمل الأمر والنهي والاستفهام والشرط والنداء والتعجب... مما استوعبته سياقات الاستعمال.

ينبغي لنا أن ننظر في دراسة الجملة إلى الاستعمال وسياقاته التي تتعلق بالوجوه البلاغية. فسنجد مدى تأثير الأدوات في تعدد أنماطها، فقد يتعدد النمط الواحد، وقد تتعدد دلالة الأداة الواحدة، وكل ذلك ذو أثر في صورة الجملة ودلالتها، كتعدد دلالة الاستفهام والشرط والنداء والتعجب وغيرها من الأساليب ، وقد شعر البلاغيون في دراساتهم أن الجملة لا تبقى على دلالتها في تركيبها الأصلي وانما قد تُنْقَلُ دلالة التركيب إلى دلالة أو دلالات أخرى على وفق سياق الاستعمال، فالسياق هو أكبر القرائن في تحديد المعنى، فقد جاءت اشارات في دراساتهم ومباحثهم لذلك ما سماه ابن جني بــــ "شجاعة العربية" وما عرض له عبد القاهر الجرجاني في فكرة النظم التي جعلها مدار اعجاز القرآن الكريم، ولكن لم يزد النحويون على أقسام الجملة التي جاءت في كتاب سيبويه.

فاذا عرفنا أننا إزاء كلام هو امتداد للخطاب القرآني، والأسلوب العلوي الذي كان كلامه نهجاً لأصحاب الفكر والفقه والكلام والفلسفة والحكمة والأدب والبلاغة، وجب أن نتدبر صوراً من أساليب التعبير في كلامه  في النفي والتوكيد والتقديم والتأخير والاستفهام والشرط والنداء والتعجب وما فات النحويين من تركيب الجملة العربية وتقسيمها تقسيماً يوافق أساليب العربية وتراكيبها، لإهمالهم التوسع في الافادة من كلام كبار البلغاء وعلى رأسهم النبي ، وكلام الامام علي ، وكان بين أيديهم.

سنجد الأدوات تتعدد وظائفها ويعدل بها من أسلوب إلى آخر إذا كانت قرينة السياق توحي بذلك وهذا التعدد في وظائف الأدوات وأنماط الجمل جعل العربية تتمدد للتعبير عن المعاني غير المتناهية بهذه الأدوات المحدودة في اللغة. هذا إلى جانب الاتساع والمجاز الذي وسع من آفاق التعبير ، فجعلها تستوعب كل ما يريد الفكر التعبير عنه كما هو في نهج البلاغة، لذلك كله ينبغي لنا أن نعيد النظر في قسمين من الجمل لتضاف إلى ما ذكروه هما: الجملة الوصفيّة والجملة المكتفية.

ونعتد بتمام المعنى وفهمه حكما، لأن الاسناد لم يكن الحكم الفارق للجملة،فهناك جمل فيها اسناد لا تستقل بالمعنى نحو: صلة الموصول وجملة الخبر وجملة الوصف، كما أن هناك عبارات ليس فيها اسناد وانما تفهم دلالتها من سياقها كعبارات القسم والنداء والتعجب، وجاءت في نهج البلاغة بمختلف صورها ودلالاتها.

الجملة الوصفية:

استعمل الوصف (اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة) استعمال الفعل. والنحويون أشاروا لذلك لكنهم لم يعدوا تركيبه نوعاً من الجملة غير تقسيم الجملة الى اسمية وفعلية، ووضعوا شروطاً لإعماله: أن يسبقه استفهام أو نفي أو نداء أو (ال) الوصلية، نحو: أقارئ زيد كتاباً؟ واختلفوا في إعرابها.

فهم يعربون (زيد) مبتدأ مؤخر و(قارئ) خبر مقدم فالجملة اسمية أو يعربون (قارئ) مبتدأ و (زيد) فاعل سد مسد الخبر، وفي هذه الحال يكون في الجملة مسنداً اليه اثنان، وهم يقرّون أنّ اسم الفاعل والمفعول يستعمل استعمال الفعل المضارع.

وبناء فاعل ومفعول صيغتان يقبلا علامات الاسم، التنوين والاضافة واتصالهما بـــــــــ(أل)، والكوفيون عدّوهما القسم الثالث من الأفعال هو الفعل الدائم بعد الماضي والمضارع ولم يشترطوا لاكتفائه عن الخبر وقوعه بعد الاستفهام والنفي.

وبناء فاعل يتضمن معنى الحدث والموصوف به لكنه لا يتضمن معنى الزمن كالفعل إلّا أنه في استعماله يدل سياقه على الحال والاستقبال، ويعمل إذا كان منوناً فاذا كان معناه ماضياً لم يكادوا يقولون إلا بالاضافة.

وهذا قول البصريين والكوفيين لكن الاستعمال القرآني خالف ذلك فجاء به منوناً دالاً على الماضي نحو قوله: (.. وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد) وقوله تعالى: (ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابدٌ ما عبدتم)، وهذا يدل على أن صيغة (فاعل) يدل المنون منها على معنى المضىّ.

ويتفق النحويون على اختلاف مذاهبهم على أن صيغة (فاعل) و(مفعول) يتضمن معنى الحدث أما الزمن فدلالتهما عليه بقرينة إما لفظية نحو أمس أو غداً وإما حالية، كأن تقال الجملة في أثناء وقوع الحدث فيكون المقام هو القرينة.

وفي هذه الحال يعرب الوصف في الجملة (أقائم محمدٌ) الهمزة للاستفهام، وقائم صيغة فاعل استعملت استعمال الفعل، (محمد) فاعل.

والجملة وصفية وهي قسم ثالث للجمل.

وقد جاء هذا الاستعمال في نهج البلاغة كثيراً، ففي الخطبة الأولى جاء قوله  في أطوار الملائكة: "ومنهم الثابتة في الأرض السفلى أقدامُهُم، والمارقةُ من السماء العليا أعناقُهُم، والخارجةُ من الأقطار أركانُهم، والمناسبةُ لقوائم العرش أكتافهم، ناكسةٌ دونه أبصارُهُمْ، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حُجُبُ العزة.."، ومن كلام له: "ولكن محجوبٌ عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجابُ"، وقوله في استنفار الناس للجهاد: "واللهِ إنّ امرأ يمكّن عدوّه من نفسه يعرُقُ لحمَهُ ويَهْشِم عظمه.. لعظيم عجزُهُ، ضعيفُ ما ضمّتْ عليه جوانحُ صدره".

هذا النوع الآخر من الوصفية انّ الوصف يقع في موضع إعراب لكنه استعمل استعمال الفعل فعبارة (لعظيم عجزُه) خبر (انّ) مؤلف من الوصف وفاعله.

ومن هذا الاستعمال قوله  "في القرآن وأحكامه الشرعية": "كتابَ ربكم فيكم، مبِّيناً حلالَه وحرامَه.. مفسِّراً مجملَه ومبيناً غوامضه، بين مأخوذ ميثاقُ علمه،.. وبين مُثْبَتٍ في الكتاب فرضُه.."

الجملة المكتفية:

قد يؤدي التركيب المعنى في سياقه من دون الحاجة إلى تقدير أو تأويل فقد يذكر المبتدأ من دون ذكر الخبر أو الخبر فقط أو تركيب اضافي أو كنائي أو كلمة تنزيه ودعاء أو مصدر منصوب أو خالفة أو ما يسمى بالنحو باب الاغراء والتحذير والاختصاص.. كل ذلك يؤلف جملاً مكتفية بالمذكور، لأدائها المعنى، وكما ذكرتُ أنّ أداء المعنى في سياقه يكفي لكونه جملة.

فالنحويون حين قسموا الجملة إلى اسمية من مبتدأ وخبر، وفعلية من فعل وفاعل، جعل الاسناد يربط بين طرفيها منذ الخليل في كتاب سيبويه، لكن "الكتاب" لم يفرق بين الجملة والكلام فهما لديه مترادفان فالكلام ما قام برأسه مستقلاً بمعناه.

وكذلك ابن جني رادف بينهما قائلاً: "أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه، وهو الذي يسميه النحويون الجمل نحو: زيد أخوك، وقام محمد وضُرِبَ سعيد.. وصه ومه ورويد وحاء وعاء في الأصوات.. وأفّ وأوّه، فكل لفظ استقل وجُنِيتْ منه ثمرة معناه فهو كلام".

وكذا ابن يعبش قال: "الكلام عند النحويين عبارة عن كل لفظ استقل بنفسه مفيد لمعناه ويسمى جملة".

فمن لم يؤكد على الاسناد في الجملة واكتفى بإفادة المعنى كان ينظر إلى النداء، لأنه من حرف واسم، فهو يخلو من الإسناد ومن أكّد على الإسناد كان في دائرة التأويل والتقدير.

لقد ورد ذكر الجملة المكتفية لدى بعض النحويين القدماء. قال الفراء في معنى الآية: (بسم الله مجراها ومرساها): " إن شئت جعلت (بسم الله) ابتداء مكتفياً بنفسه كقول القائل عند الذبيحة أو عند ابتداء المأكل وشبهه (بسم الله)".

وكذلك ذكر الاكتفاء عن ذكر المرفوع بعد (نعم وبئس) اذا اتصلا بالموصولات (الذي أو ما أو مَنْ).

وذكر الاكتفاء ابن ولاد في ذكره الفعل حلف وأقسم نحو: حلفت على زيد لا أكلمه، "وإن شئت قلت: حلفت على زيد، ولم تأت بجواب، لأن حلفت جملة مكتفى بها..".

واعتمد الدكتور المخزومي إفادة المعنى في تحديد الجملة قائلاً: "والجملة في أقصر صورها هي أقل قدر من الكلام يفيد السامع معنى مستقلاً بنفسه، ليس لازماً أن تحتوي على العناصر المطلوبة كلها، وقد تخلو الجملة من المسند اليه لفظاً، أو من المسند لوضوحه وسهولة تقديره كخلوها من المسند اليه في نحو قول المستهلّ: "الهلالَ والله" أو من المسند في نحو قولك : خرجت فاذا السبعُ..".

وقد درس الدكتور احمد عبد الستار الجواري الجملة القرآنية فوجد كثيراً ما تستغني عن طرف فيها فيكون الاكتفاء بالمذكور واستشهد بجملة من الآيات.

وجاء في كتاب "اللغة" لفندريس قوله: "بالجمل حصلنا لغتنا، وبالجمل نتكلم، وبالجمل نفكر أيضاً.. والجملة تقبل بمرونتها أداء أكثر العبارات تنوعاً، فهي عنصر مطاط، وبعض الجمل يتكون من كلمة واحدة: (تعال) و(لا) و(واأسفاه) و(صه)، وكل واحدة من هذه الكلمات تؤدي معنى كاملا يكتفي بنفسه".

أما برجستراسر فقد فرق بين الجملة والكلام قائلاً: "ومن الكلام ما ليس بجملة بل هو كلمات مفردة أو تركيبات وصفيّة أو اضافية أو عطفية غير اسنادية مثال ذلك: النداء، فان (يا حسن) ليس بجملة ولا قسم من جملة وهو مع ذلك كلام ويشبه الجملة في أنه مستقل بنفسه لا يحتاج إلى غيره مُظْهَراً كان أو مقدراً،... وأنواع أشباه الجمل على اختلافها قد تقرب في بعض الأحيان إلى الجمل الكاملة، وذلك يكون على وجهين: إما بإعمالها عملاً كعمل الأفعال نحو: دونك أخاك، أو بعطف اثنين منها بعضها على بعض نحو: اياك والأسد،فهي من جهة المعنى مساوية لجملة كاملة".

نخرج من دراستنا الجملة العربية بما يأتي:

انها ترادف الكلام كما ذكرت عند سيبويه وابن جني وابن يعبش.

الفرق بين المصطلحين أن الكلام يفيد المعنى مستقلاً بنفسه، والجملة فيها اسناد قد تكون كلاماً مفيد المعنى وقد لا تفيد المعنى مع الاسناد كصلة الموصول وجملة الشرط وغيرهما.

الجملة قدر من الكلام يفيد السامع معنى مستقلاً بنفسه وليس لازماً أن تحتوي العناصر كلها وانما تكتفي بالمذكور منها في أداء المعنى. وهذا ما نذهب اليه.

لقد جاء من التراكيب المكتفية المفيدة مع عدم الاسناد الكثير في "نهج البلاغة" وكل منها يؤدي معناه في سياقه فهو من الجمل المكتفية التي ينبغي أن تدرس في كلامه .

من ذلك ما جاء في تراكيب القسم المختلقة: "أما والله" لتأكيد الحدث، "فَمُنِىَ الناس –لعمرُ اللهِ- بخبط وشماس" لتأكيد أسفه على ما وقع، "بلى –واللهِ- لقد سمعوها" لتأكيد تساؤل النفس في أخذ حق، "أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة" قسم كنائي وصفي، "والذي بعثه بالحق"، هذه وغيرها كلها جمل مكتفية.

وجاءت بصور أخرى نحو: المصدر المنصوب (فَقُبْحاً لكم وتَرَحا، حين صرتم غرضاً يرمى..)، وقوله: (أَقَوْلاً بغير علم، وغَفْلةً من غير ورع، وطمعاً من غير حق!؟)، صورة النداء في قوله : (يا أشباه الرجال ولا رجال).

صور الإغراء والتحذير في قوله: (كتابَ الله ربّكم فيكم)، وقوله في سفارته لعثمان: (فاللهَ اللهَ في نفسك..).

صورة الخبر، الجملة الأولى والأخيرة في قوله : (أعاليلٌ بأضاليل،وسألتموني التطويل، دفاعَ ذي الدَيْن المطَول)، وكذا قوله في خطبة له في المدينة: (ألا وان التقوى مطايا ذُلُل، حُمِلَ عليها أهلها، وأُعْطوا أزمّتَها فأوردتهم الجنّة، حقٌ وباطلٌ، ولكلٍ أهلٌ، فَلئنْ أُمِرَ الباطل لقديماً فَعَلَ، ولئن قلّ الحق فلربما ولَعَل)، وكذا قوله: (قومٌ واللهِ مِيامينُ الرأي, مراجيحُ الحلم،مقاويل بالحق)، وقوله باستعمال الخالفة والكناية: (هيهات بعد اللتيّا والتي)، وكذا استعمال الخالفة في حال الضجر: (أفٍّ لكم، لقد سئمتُ عتابكم)، وفي حال التحسّر: (آهٍ من قلّة الزاد وطولِ الطريق)، وقوله: (أوّه على اخواني الذين تلُوا القرآن، وتدبّروا الفرض فأقاموه)،  وقوله في لوم المخاطَبينَ باستعمال الخافض وأداة الاستفهام: (ولكن بمن؟ وإلى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي، كناكش الشوكة بالشوكة، وهو يعلم ضَلْعَها معها).

هذه كلها وأمثالها كثيرة في نصوص نهج البلاغة يمكن أن تدرس دراسة مطولة جمل مكتفية تفهم من سياقاتها. لا تحتاج إلى تقديرات تذهب روعة أساليبها.

المستوى الأسلوبي:

إذا اختلف في الإمام المختلفون فهم لا يختلفون في قدرته البلاغية الفائقة التي تبدع الكلام في حينه ومناسبته، إذ هو يلقي كلامه محكما بأسلوب يضيئه المجاز بألوانه، يصدر عن صدقه وإيمانه، وتجاربه التي عرفت الحياة وطبائعها وخفاياها. فهو امتداد للخطاب النبوي، لذلك كان وعيه عسيراً على الكثير من معاصريه الذين أسرتهم المصالح والعصبيات، فكلامه لا يخطئه من يسمعه أن يشير إليه، بدلالات سياقية تفتح للسامع آفاق المعاني في التأمل، وألوان المعرفة،فخطابه يمتاز بفنية اللغة وعمق الفكرة والاجتهاد في التوجيه.

لقد حاول بعض رواة الأخبار أن ينسب خطبة له إلى معاوية للتقرّب،فاكتشفها أبو عثمان الجاحظ (ت ٢٥٥هـ) بحسه النقدي الدقيق قائلاً: "وفي هذه الخطبة أبقاك الله ضروب من العجب: منها أن الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أن هذا المذهب من تصنيف الناس وفي الإخبار عماهم عليه من القهر والإذلال، ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي  ومعانيه منه بحال معاوية، ومنها أنّا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد، ولا يذهب مذاهب العبّاد.. والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم".

وكذلك عقّب الشريف الرضي على هذه الخطبة وقد أثبتها إلى الإمام في نهج البلاغة قائلاً: "وهذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية وهي من كلام أمير المؤمنين  الذي لا يُشك فيه.

وأشار إلى ذكر الجاحظ متّهماً الرواة.

لقد امتاز كلام الإمام وخطبه بخصائص لغوية وبدلالات مقصدية وبنظم سياقية اختص بها، وبذلك كان كلامه دالاً على شخصه فهو امتداد لخصائص الثقافة النبوية، وهنا يتوحد الدال والمدلول كما يتوحد النص ومنتجه فلا نستطيع الفصل بينهما.

يتمثل خطابه  بتتابع الصور وحركة التراكيب، وشبكة علاقات الكلمات فيه مولّداً الدلالات الراسمة لصورها، والناطقة بأصواتها وأنساقها، فتظهر عمق تجربته، وخَلْق صوره حتى تحس عند قراءته بهزّة وحركة فكر لهول ما يصفه من أحداث، والاستغراق في التفكير والتأمل لعمق ما يصفه من خلق الكون وغاياته ووصف مخلوقاته، وكلامه في الزهد بالدنيا ومغرياتها وغير ذلك من الأغراض.

يبلغ أسلوبه قمة الجمال وقوة التأثير حين تثور عاطفته وتجيش مشاعره في مواقفه، فتحضر تجاربه وأحداث الحياة التي مارسها وتمرّس فيها، فاذا بالكلام يتدفق من أعماقه وصدق مشاعره تدفقا، ويمتاز أسلوبه في هذا الموقف بقوة الحجة، وتدرج الحديث في تعبير مؤثر، فيستعمل التكرار للتقرير والتأثير،ويختار الألفاظ والمترادفات أو المقابلات المناسبة، وتتداخل فيه أساليب الخبر والإنشاء من النفي والتوكيد والاستفهام والشرط والتعجب والأمر والنهي، فتظهر على أحسن صورها، وفي أفضل دلالاتها وسياقاتها.

هذا الأسلوب المعبر عن فكر وقدرة وتجربة نادرة هو الذي أنطق الشريف الرضي بوصف كلامه  بأنه "الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عَبْقة من الكلام النبوي"، هذا أبلغ وصف لكلام الإمام، فهو الامتداد المتواصل من عمق الثقافة القرآنية وكلام النبي  ممتزجاً بقدراته الإبداعية.

أكتفي بذكر بعض خصائصه بحسب ما تتسع له مسافة البحث، لأخلص إلى أنماط التركيب اللغوي لديه.

 تناغم الأساليب وتداخل وظائفها وتراكيبها:

نقرأ في النص الواحد تعانق أجزائه، وتلوين فواصله، فلا يشعر المتلقي بانفصال دلالة بعضها، وانما هي مركبة تركيباً فنياً متراصاً ومتكاملاً في أفكاره وصوره، فهي تتنامى وتتكامل عباراتٍ يكمل بعضها بعضاً وكأنها قطعة واحدة.

ففي خطبة له  يذكر فيها خلق السماء والأرض: "أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير صفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثناه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدهّ..".

وهكذا يتسلسل الكلام بجمل خبرية في البداية، ثم تحول إلى الجمل الشرطية من (فَمَنْ وصف الله..) ودلالات الجمل المذكورة توحيد الله تعالى، ثم يدخل في الشرط أسئلة الفلسفة (ومن قال: فيمَ؟ فقد ضمّنه، ومن قال علامَ، فقد أخلى منه) ويستمر بجمل مكتفية خبرية مبتدآتها مفهومة (موجود لا عن عدم،مع كل شي لا بمزايلة، فاعل بمعنى الحركات والآلة..).

هذا التنوع في أساليب التعبير من خصائص كلامه  فهو العارف بأساليب كلام العرب وأساليب القرآن الكريم مع ما تبدعه قدرته وذكاؤه من أساليب وصور في التعبير. وهذا التنوّع في أطوال الجمل، وفي سجعاتها وتركيبها يجعل من كلامه  قمة الإبداع خصوصاً حين يكون متوهج العاطفة في مواقفه.

وقد تتابع الجمل الاسمية بالعطف وسطها استثناء تتابعاً يوحي بدلائل مع تناسقها في سياقها نحو قوله "كل مسمّى بالوحدة غيرَه قليل، وكل عزيز غيرَهُ ذليل، وكل قويّ غيره ضعيف، وكل مالك غيرَهُ مملوك، وكل عالم غيرَهُ متعلِّم..".

جمل متعاطفة، كل منها تقابل نقيضها يتوسطها استثناء، هذا التتابع يجعل المتلقي يردد تكملة كل جملة مع الخطيب في أثناء خطبته، وهو أسلوب يمتاز بالشعرية بجذب المتلقي السامع فيرصد أواخر الجمل.

يمكن أن نتخذ كثيراً من خطبه وكلامه  في هذا المجال من تداخل الأساليب،  وتشابك وظائف تراكيبها، وتعانقها في كلامه.

ننظر في واحدة منها نموذجاً وهي المعروفة بــــ (الشقشقية).

جاءت الخطبة بلغة فنية عالية عبّر بها عن حزن وهمّ احتمله بالصبر لكنه عبّر عنه هنا بصوت هادر وصراحته الصادمة، فجاءت لغته تحكي اللحظات التي استحضر فيها كل آلامه منذ أن انتقل النبي  إلى جوار ربه، فاذا قرأناها قراءة سياقية نصّية أدركنا أبعاد بنيتها.

فالخطبة قصة تاريخية صاغها بلغة فنية مؤثرة، وهي تتألف من أربعة مشاهد متكاملة مترابطة، بدأ أولها بجملتين كل جملة بتوكيدين: أولاهما بالقسم ولام التوكيد، ثم عطف عليها أخرى بتوكيدين أيضاً أراد بهما أن يثبت حقه المغتصب، مع عظيم قدره وعلو همته وسلوكه العلوي الذي غايته الحفاظ على وحدة الأمة، وتلك دلالة تكررت في خطبه وأقواله: "أما والله لقد تقمّصَهَا فلان، وإنّه ليعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى" إنّه لقسم طالما كرره في خطبه للتعبير عن موقف لا ريب فيه، فحقه لا يمكن تجاهله، و(فلان) المكني عنه عالم بذلك وعارف بصاحبه الذي لا يرقى إليه الطير لعلو شأنه، ومع ذلك انحنى على جرحه واحتمل البلوى متغاضياً معبّراً بكنايات شعرية التعبير "فسدلتُ دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً" في تلك اللحظات طفق يتأمل، هما موقفان بالغا الصعوبة لا بد من أحدهما: بين أن يصول لحقه مع قلة الناصر أو أن يصبر "على طخية عمياء" صورة مجازية معبرة عن شدّة ظلامها.

وصفها بعبارة مجسّدة "يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير" لكنه اختار الصبر "فرأيت الصبر على هاتا أحجى" فهو منهجه في حياته النهي عن الفتنة، واتباع العقل ويصل اليه ما دام به الحفاظ على كيان هو أكبر المشاركين في بنائه مع رسول الرحمة.

وبعد أن مضى (فلان) لسبيله لم يتغير الموقف من حقه، فوقف متعجباً: "بيناً هو يستقيلها بحياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته". يبدأ هنا المشهد الثاني بالنداء التعجبي "يا عجباً" وبالعبارة الشرطية الظرفية وبجوابها بــ (إذ) وتقديم الضمير (هو) على الفعل للتخصيص والتوكيد.

وتقديم الضمير للتخصيص من أساليب القرآن الكريم نحو قوله تعالى (كلا انها كلمة هو قائلها) ٢٣:المؤمنون، ثم أعقبه بعبارة تعجب أخرى "لشدّما تشطّرا ضرعيها" فالخلافة ذات ضرع حجز كل منهما شطره ارثاً.

فسيّرها "الآخر في حوزة خشناء" فَبُليَ فيها الناس "بخَبْطٍ وشماس" بتخبط ونفار.

وقد أكده بعبارة القسم "لعمر الله".

وعبارات هذا المقطع في وصف هذه المرحلة من الفصاحة المحكمة في مبناها والدلالة في معناها، فعباراتها ينبغي أن تكون في ضمن معجم للتراكيب في "نهج البلاغة" كما تكون لمفرداته وغريبه معجم أيضا. "سيّرها في حوزة خشناء، يغلظ كُلَامها ويخشن مسها ويكثر العثار فيها" وقبلها "أن محلّى منها محلَّ القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلى الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً" فلا مزيد لمستزيد على هذه العبارات وغيرها كثير في شدة وصفها، واستخدام التشبيه النابع من بيئته "فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خَرَم وغنْ أسلس لها تقحّم" فراكب الصعبة من الإبل يصعب قيادها يحار راكبها، هل يشدّ زمامها فيخرم أنفها أو يرخيه فتهلكه...

وفي هذه الحال "مُنِيَ الناس لعمر الله بخبط وشماس" استمر صابراً على شدة المحنة وهنا ينتهي المشهد الثاني ويبدأ الثالث "حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا للهِ وللشورى"، نلاحظ استعمال الروابط (حتى) و(إذا) التي هي هنا أقرب إلى الزمنية بأسلوب الشرط ثم الفعل (زعم) كيف يقف ساخراً ثم عبارة النداء التعجبي على صورة الاستغاثة "فيالله وللشورى" ثم سؤال التعجب والاستغراب "متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرتُ أُقْرَنُ إلى هذه النظائر؟!"

وفي هذا السؤال تبرز صور الأحداث منذ نشأته الأولى مع رسول الله وخوضه الأحداث لإقامة صرح الإسلام، وموقف قريش من الرسول أول الأمر ثم صوت رسول الله وأحاديثه وأقواله فيه "يا علي لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق" و"أنت منّي بمنزلة هارون من موسى" والآن هو أحد جماعة الشورى، وجماعة الشورى مال كل إلى ما يخصّه، فمنهم من كان يكنّ له الحقد فمال عنه ومنهم من فضّل صهره مع الميل إلى "هن وهن" كنّى بها عن أغراض أخرى هي المصالح الخاصة وما جنوه وكدسوه من المال والعقار، فكانت نتيجة الشورى هي المشهد الثالث وما كان فيه من تحكّم بني أمية في أمور الخلافة فهم "بنو أبيه" استغلّوا ضعفه وعاطفته فتحكّموا بتوزيع المال والجاه والسيطرة على مقدرات الرعية حتى دارت الأيام عليه بسبب ما فرّط في أمر الخلافة، وحكّم مَنْ حرفها عن خدمة الرعية إلى "أن انتكث عليه فتله وأجهز عليه عمله" فانتهى المشهد بهذه العبارات المجازية الكنائية، ليبدأ المشهد الرابع.

توجه الناس نحو عليّ لمبايعته بالخلافة، ينثالون عليه من كل جانب فتأمّلَ الحال، فما كان له إلّا قبولها فهي تكليف "لقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم" ثم ليصلح ما حدث من انحراف في الحكم عن الحق، لكنه لم يسلم من رؤوس الفتنة، فقال متعجباً "فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون" ثم تساءل باستغراب متعجباً "كأنهم لم يسمعوا الله يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض..)" ويجيب مع القسم "بلى، والله سمعوها ووعوها ولكنّهم حَلِيَتِ الدنيا في أعينهم وراقهم زِبْرجُها" ثم ختمها بقسم شديد "أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة.. لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز" فتعدّدُ جواب لولا ثلاث مرات دليل على شدة غيظه وآخرها أبان تفاهة الدنيا لديه.

هذه الخطبة تكاملت لغة ودلالة. وجدناها تتنامى بمشاهدها. بدأت بالقَسَمِ والتأكيد وانتهت به، وتكرر القسم بصور مختلفة أربع مرات كما تكررت صور التعجب أيضاً خمس مرات واستعمل الاستفهام بصورتيه: بالأداة "متى اعترض الريب فيّ.." وبالتنغيم "وكأنهم لم يسمعوا كلام الله.."

واستعمل عبارات المفاجأة التي صارت مثالاً للأدباء:

بينما هو يستقيلها.. إذ عقدها لآخر

فما راعني إلّا والناس كعرف الضبع

فلما نهضتُ بالأمر نكثت طائفة...

وتلاحقت تراكيبها، أحدها يكون هذا في مجموعة الأمثال والحكم والعبارات الوعظية في الزهد التي تركها ، ولا تفوقها أقوال إلّا حِكَم الأنبياء "ويزيد عليها أنها أَبْدعُ في التعبير وأوفر نصيباً من ذوق الجمال" ومنها ما يمكن أن يُؤلف معجماً لتراكيب نهج البلاغة باعتبار نصوصه هي ما استوعبت الثقافة الاسلامية النبوية، وقد كانت بعد القرآن الكريم وكلام النبي  في بلاغتها وأساليب تعبيرها، وسأقوم بمحاولة تجريب تتسع في مقبل الأيام إن شاء الله.

"وجرت على أذلها السنن" أي جرت على وجوهها وفيها عود الضمير على متأخر.

"أنا لكم وزيراً خيرٌ لكم مني أميراً" وقوع الحال من جملة اسمية وهو نصح بأسلوب الخبر.

"أتأمروني أن أطلب النصر بالجور في مَنْ وُلّيتُ عليه؟" سؤال إنكاوي فيه حكمة وعدل.

"أيها الناس شُقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة" تركيب فيه استعارة تمثيلية بديعة.

"يزعم انه بايع بيده ولم يبايع بقلبه، فقد أقرّ بالبيعة وأدّعى الوليجة" .

قاله في الزبير حين بايعه وهو يعرف ما بقلبه من دخيلة.

"آهٍ من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر" قالها في طلاقة الدنيا في مناجاته.

"الحلم عشيرة" عبارة تغني من كتاب في إيجازها.

"كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلّأ وعاء العلم فهو يتسع" حب العلم أهم خصائصه.

"فاتقوا الله عباد الله، وفروا إلى الله من الله، وامضوا في الذي نهجه لكم!!" زهد ونصح يضئ الحياة.

"العلم يحرسك وأنت تحرس المال" حكمة عارف محب للعلم.

"لا رأي لمن لا يطاع" حكمة تعبر عن تجربة حياة عميقة.

"ما مُتّع غني إلا بما جاع به فقير" حكمة توحي بالتوازن في فكره وحياته.

إن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه،ولا تكشف الظلماء إلا به" وصف عميق لعارف بكتاب الله.

ويمكن أن نضع مجموع الحكم التي في آخر نهج البلاغة وشروحه في هذا المعجم ونضيف إليه ما نستخرجه من كلامه ونصوص خطبه وما يصدر منه من عبارات تلقائية تعبر عن عمق تجاربه في الحياة وعلمه بحقائقها ومعرفته بسلوك البشر وغرائزهم.

لنأخذ خطبته الأولى في المدينة مثلاً لما جاء فيها من تركيز المعنى وشحن التركيب بالدلالة وإشارات موحية.

كانت هذه الخطبة في وقت مضطرب وأجواء الفتنة بعد مقتل الخليفة يراها الإمام ، فكان موقفه صعباً والناس من حوله يتدافعون لمبايعته وهو عارف بوجود من لا يسره اختياره ومواقفهم منذ وفاة الرسول ، لذلك كان في خطبته عبارات منذ البدء أقرب إلى الكنايات الكلامية وفيها من لغة المجازات سياقات يتسع تأويلها ولها وظائفها اللغوية عند فهمها ووعيها.

كانت عبارات البدء أمرية بتوكيدين: النون الثقيلة والحصر بــ (إلّا): "ألا لا يُرعِيَنّ مُرْعٍ إلّا على نفسه" وبعدها جملة مفتوحة للتأويل ولشدة تكثيف دلالاتها "شُغِلَ مَنْ الجنةُ والنارُ أمامه" وأغنت عن فاعلها (نائب الفاعل) جملة اسمية سبقها اسم موصول، ثم توالت عبارات موجزة تخفي دلالات: "ساعٍ مجتهد ينجو، وطالب يرجو، ومقصّر في النار.. هلك من ادّعى ورَدِيَ من اقتحم". كأنه يشير إلى حالات وأحداث سبقت هذه اللحظات التي هو فيها،ومواقف عاناها.

فالجملتان الأخيرتان تخفيان تاريخاً من التظاهر والادعاء بما ليس للمدعي فأهلكه ادعاؤه، وكذلك المقتحم لما ليس من شأنه، ثم تأتي عبارات وكأنها تعليمات وأوامر يصدرها لمجتمع هائج، تَدفعه العواطف من دون توضيح أو تفصيل: "استتروا في بيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم" ثم بدأت اشارات بما بعدها بعضها حكمة مجرب "من أبدى صفحة للحق هلك" وبهذا يصف موقفه في قصده الحق، فعانى من الأمور ما عاناه، فأخذ يصف الموقف منه ومن حقه وتراثه المسلوب، ثم جاءت عبارات شديدة التركيز والإيجاز: (أنظروا، وإن عرفتم فآزروا، حقٌ وباطل ولكل أهلٌ، ولئن أمَرَ الباطل لقديماً فَعَلَ، ولئن قلّ الحق لربما ولعلّ، وقلّما أدبر شئ فأقبل"، هذه عبارات متلاحقة شديدة الإيجاز قابلة للتأويل، وكأنها كنايات وبعضها كنايات فعلاً نحو "ولئن قلّ الحق لربما ولعل" و"لقلما أدبر شئ فأقبل" وبعده وصف بصورة عبارة شرطية سبقت بما يدل على القسم جاء جوابه مؤكداً أغنى عن جواب الشرط "ولئن رَجَعتْ اليكم أموركم إنكم سعداء"، كأنه يقدم لهم مفاتيح الكلام تتقدم خاطرة تخطر للأولياء العارفين وهو في مقدمتهم "وإني لأخشى أن تكونوا في فترة" ينهيها بذكر منهجه بعبارة مؤكدة بالحصر، بعد تقليب الأمور وعَرْض الحقائق "وما علينا إلّا الاجتهاد".

هذه من خصائص أسلوبه في كلامه، لذلك كان ينبغي لواضعي قواعد الجملة وأقسامها استيعاب أساليب الفصاحة في مواطنها وأهمها القرآن الكريم والحديث الشريف وكلام الفصحاء من العرب وعلى رأسهم كلام الإمام علي  الذي جمع في نهج البلاغة.

التراكيب الأسلوبية وأنماطها في نهج البلاغة

تحتاج هذه الأنماط الأسلوبية في التركيب في نهـج البلاغة إلى دراسة وافية، يوضح فيها ما جاء في دراسات البلاغيين، وما يحتاج إليه من دراسة أسلوبية حديثة تظهر ما في التراكيب البلاغية في نهج البلاغة من ابداعات وسنذكر هنا نماذج من أنماط التركيب ما تكمل به فكرة البحث:

تركيب الاستفهام:

هو السؤال وهو أسلوب تعبيري يكون بأدوات: حروف وكنايات ولم يستعمل في النصوص البلاغية العالية على الأصل إلا نادراً نحو سؤالهم إياه : (كم بين الأرض والسماء؟  قال: دعوة مستجابة...) وأداة الاستفهام (كم)، وينقل إلى دلالات أخرى مجازية في النصوص الأدبية أذكر نماذج منها:

الانكار، نحو قوله: "أبعد إيماني بالله وجهادي مع رسول الله  أشهد على نفسي بالكفر".

النفي نحو: "هل تحس به (ملك الموت) إذا دخل منزلاً؟ أم هل تراه إذا توفي أحداً؟".

التحسر: في قوله: "أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى ؟ والأبصار اللامحة إلى منار التقوى؟ أين القلوب التي وهبت لله؟".

التعجب واللوم: "أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ ما بالكم؟ ما دؤاكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم".

اللوم في قوله: "أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عِوَضاً؟ وبالذل من العز خلفاً؟ .

في قوله: "وكيف يراعي النبأة من أصمّته الصيحة" ويفهم منه معنى الشرط أيضاً.

ويأتي بصورة الخبر نحو قوله: "يغار عليكم ولا تُغِيرون وتُغْزَونَ ولا تَغْزُون ويُعْصى الله وترضون".

تركيب الشرط:

تركيب يتألف من أداة الشرط وجملة الشرط وجملة الجزاء. فقد يذكر تاماً بجزأيه، وقد يحذف الجواب أو يتقدم الأداة والشرط لأغراض ومعان أيضاً. أذكر أمثلة مما ورد في نصوص نهج البلاغة:

الحيرة والتأزم في قوله  في خطبته: "فصاحبها كراكب الصعبة إن أَشْنقَ لها خرم وإن أسلس لها تقحّم..."() فالأداة (إن) و (أشنق) جملة الشرط و (خرم) جوابه.

اللوم ، قوله لعمرو بن العاص : "لو اعتبرتَ بما مضى حَفِظتَ ما بقي"

المعاناة والتأنيب من تماهل المخاطبين في قوله  من خطبة يحثهم على الجهاد: "فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حَمارّة القيظ. أَمْهلنا ينسلخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارّة القرّ أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقُر، فإذا كنتم من الحر والقُر تفرون فأنتم والله من السيف أفر".

النصح في قوله : "أيها الناس، إنه لا يستغني الرجل -وإن كان ذا مال- عن عترته... وهم أعظم الناس من ورائه، وألّمهم لشعثه، وأعظمهم عند نازلة إذا نزلت به".

هنا جملتا شرط: أولاهما اكتنف بها الجوابُ الشرطَ وأداته، والثانية تقدم الجواب فيها، فهما على غير صورة الأصل للاستغناء عن الجواب في موضعه.

وكذا قوله: "ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما تُقبض منه عنهم يد واحدة وتُقبض منهم عنه أيد كثيرة.".

التعجب في قوله : "فإنْ أَقُلْ يقولوا حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت".

التقريع في قوله: "ومنْ فاز بكم فاز ـ والله ـ بالسهم الأخيب".

الحكمة في قوله: "إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه".

استعمال (كلّما) للشرط أكثر من مرة منه قوله: "الحمد لله كلّما وقب ليل وغسق، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق".

إخبار بصورة الشرط للوم في قوله: "فإذا كنتم من الحر والقُرّ تفرّون فأنتم ـ والله ـ من السيف أفرّ".

تركيب النداء:

أشهر أدواته (يا) يراد بها التنبيه ـ وكثيراً ما يستغنى عن الأداة مع أيّ خاصة.

أخلاقه وصدقه في قوله: "أيّها الناس، انّي ـ والله ـ ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها" .

النصح والوعظ في قوله: "معاشرَ المسلمين استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة".

اللوم في قوله : "أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم".

التقريع ووصف ماهم به من توانٍ في قوله: "يا أشباهَ الرجالِ ولا رجال".

الدعاء في قوله: "الّلهُمّ فارحمْ أنينَ الآنّة، وحنينَ الحانّة، الّلهمّ فارحم حيرتها في مذاهبها..".

تركيب التعجب:

للتعجب صيغتان قياسيتان هما: (ما أفعله وأفعلْ به) وللتعجب صور سماعية واستعمالية كثيرة سنذكر منها مما ورد في نصوص نهج البلاغة .

مما جاء في الوعظ على صيغة (ما أفعله) قوله : "ما أسرع الساعات في اليوم!  وأسرع الأيام في الشهر!  وأسرع الشهور في السنة! وأسرع السنين في العمر!".

التعظيم في قوله من خطبة له: "سبحانَكَ ما أعظمَ شأنك! سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك!".

صورة النداء التعجبي في قوله: "فيا عجباً، بينا هو يستقبلها..".

وكذا قوله : "يا خيبة الداعي! من دعا! وإلامَ أجيب!؟ .

صورة الاستغاثة في قوله: "فيا لِله وللشّورى!".

وكذا في قوله: "فيالها أمثالاً صائبة، ومواعظ شافية".

بصورة الاستفهام قوله: "متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أُقرَنُ إلى هذه النظائر".

وفي جملة خبرية يعقبها استفهام تعجبي قوله : "لله أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدّ مراساً وأقدم فيها مقاماً مني!؟".

وقوله في رسالة إلى الزبير: "عرفتني في الحجاز وأنكرتني في العراق، فما حد مما بدا!؟".

تركيب الأمر:

يكون بصيغة الأمر أو لام الأمر تسبق الفعل نحو قوله  للوعظ: "فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ وفرّوا إلى الله من الله وامضوا في الذي نهجه لكم وكذا تخففوا تلحقوا".

الاحتجاج في قوله : " فَلْيأتِ عليها بأمرٍ يُعْرَفُ وإلّا فلْيدْخلْ فيما خرج منه".

النهي: يكون بـ (لا) التي هي أداة النهي، نحو قوله لعثمان في سفارته له: "فلا تكوننّ لمروان سَيِّقةً()  يسوقك حيث يشاء".

النصح في قوله: "ألا لا يَعْدلنّ أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها"النهي مع الحكمة في قوله : "لا تقتلوا الخوارج بعدي ، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه".

الامام علي وعلم النحو:

إنّ المتتبع للأخبار التي تتعلق بنشأة النحو وأسبابه في المصادر القديمة التي تعرّضت لذلك يغرق في مجموعة من الأقوال المتخالفة، فهي متخالفة في تخصيص أول واضع للنحو، فمرة نجده الامام علي  وأخرى أبا الأسود الدؤلي (ت٦٩هـ) صاحب الامام علي وأخرى يحيى بن يعمر (ت١٢٩هـ) أو نصر بن عاصم (ت٨٩هـ)، ثم نجدها تضطرب في أسباب وضعه فهي مرة بإشارة الامام علي  إلى أبي الأسود في أمر فساد العربية بسبب اختلاط العرب بالأعاجم، وهذا القول هو أقوى الأقوال ـ وأخرى سماع أبي الأسود الدؤلي لمن قرأ آية لَحَنَ في إعرابها أو سمع ابنته وهي تخلط بين أسلوبي الاستفهام والتعجب.

وإذا تتبعنا قضية اللحن والمواقف التي صدرت فيها أقوال ضاقت به وجدنا أقواها من خلافات في قراءة النص القرآني، هذا النص الذي كانت عناية الرسول الكريم بحفظه وتدوينه وإحاطته بكل وسائل العناية الدقيقة لتبعده عن الخطأ والتحريف، فشدة عنايته به دعته إلى أن يدعو الصحابة أول الأمر أن لا يدوّنوا سواه معه كي لا يختلط به .

وبعد عهد الرسول  أعيد تدوين القرآن وتوحيده ووزعت نسخ منه على الأمصار مكة والبصرة والكوفة والشام وواحدة في المدينة، وكان رسمه خالياً من رموز الحركات وما يميّز بين الحروف المتشابهة.

لقد أصبحت مشكلة رسم كتابة القرآن الكريم والتفكير في حلها ملحّة في خلافة الإمام علي، فليس غريباً أن يتشاور الإمام علي وأبو الأسود وغيره من العلماء في حل هذه المشكلة، فأبو الأسود كان على رأس العلماء الذين أطالوا التفكير في مشكلة الرسم القرآني خصوصاً بعد وفاة الامام علي.

روي عن الامام علي  قوله: "إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الأعاجم. فهو لم يقل هذا الكلام لولا ما شغل فكره من أمر لغة القرآن وصحة قراءته ، فكان ذكاؤه ومعرفته الواسعة لأنماط التفكير وأساليب العربية التي وعاها وحفظه القرآن الكريم، إذ كان من أوائل كتاب الوحي وجامع القرآن بعد وفاة حبيبه عليه الصلاة والسلام ،وشدة التزامه في نشر الثقافة النبوية ونشره العدل النبوي في سياسة المجتمع لإصلاحه تنبه لضرورة إصلاح الفساد اللساني أيضاً فقد امتلك أدوات العلم والفقه والبلاغة معاً.

قال العقاد: "ليس الامام علي أول من كتب الرسائل وألقى العظات وأطال الخطب على المنابر في الأمة الإسلامية ، ولكنه أول من عالج هذه الفنون معالجة أديب، وأول من أضفى عليها صبغة الانشاء الذي يُقتدى به في الأساليب، لأن الذين سبقوه كانوا يصوغون كلامهم صياغة مبلّغين لا صياغة منشئين،ويقصدون إلى أداء ما أراده ولا يقصدون إلى فن الأداء.." ، لذلك كله لا نرى أحدا أجدر منه في التفكير بلغة القرآن الكريم ومحاولة الإشارة إلى أسس إصلاح ألسِنَةِ العرب بعد أن شكا أبو الأسود شيوع اللحن في حضرته بعد الانتهاء من وقعة الجمل في البصرة.

وكان أبو الأسود عالماً شاعراً وقاضياً للبصرة في عهده.

ولقد مرت الاشارة إلى أنه  كان أبا للفقهاء على اختلاف مذاهبهم ولأصحاب الكلام ولأصحاب الفلسفة وأصحاب اللسان من الخطباء والمتكلمين والشعراء .

قال جمال الدين القفطي (ت ٦٤٦هـ) في أول من وضع النحو: "الجمهور من أهل الرواية على أن أول من وضع النحو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ قال أبو الأسود الدؤلي رحمه الله: "دخلت على أمير المؤمنين علي ـ  ـ فرأيته مطرقاً مفكراً فقلت : فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ فقال: سمعت ببلدكم لحنا فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية فقلت له: إن فعلت هذا أبقيت فينا هذه اللغة العربية، ثم أتيت بعد ايام فألقى إلي صحيفة فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل".

ثم قال: "تتّبعْهُ وزدْ فيه ما وقع لك. واعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر،ومضمر،وشيء ليس بظاهر ولا مضمر. وانما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر" فجمعتُ أشياء وعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب ، فذكرت منها : إن وأنّ وليت ولعل وكأن ولم أذكر لكنّ فقال: لِم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها . فقال : بل هي منها فزدها فيها . هذا هو الأشهر في أمر ابتداء النحو.

وقد ذكر أبو القاسم الزجاجي (ت٣٣٧هـ) هذا التقسيم قائلاً: وقد روي لنا أنّ أول من قال ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أعني قوله : الكلام اسم وفعل وحرف ونقلها أبو الأسود الدؤلي عنه.

وأكد ذلك أبو الفرج محمد بن أبي اسحاق النديم (ت٣٨٠هـ) قائلاً: "زعم أكثر العلماء أن النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي وان أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه" وقال أبو جعفر بن رستم الطبري: انما سمّي النحو نحواً لأن أبا الأسود الدؤلي قال لعلي  وقد ألقى إليه شيئاً في أصول النحو قال أبو الأسود فاستأذنته أن أصنع نحو ما صنع قسمّي ذلك نحواً. 

وكان أبو الأسود ضنينا بما أخذه عن الامام علي لا يطلع عليه أحدا.

وذكر النديم سببا يدل على أن أبا الأسود أول من وضع في النحو كلاماً. ذكر حكاية رجل من أهل الكوفة كان مغرماً بجمع الخطوط القديمة قد ترك قمطراً عند محمد بن الحسين صديقه فيه أوراق وكتب قديمة اطلع عليها النديم بعد معرفته له قال: "فرأيتها وقلّبتها فرأيت عجباً" رأيت في جملتها مصحفا بخط خالد بن أبي الهيّاج صاحب علي ، ورأيت عدة أمانات وعهد بخط أمير المؤمنين علي ، ورأيت ما يدل على أن النحو عن أبي الأسود وهي أربعة أوراق من ورق الصيني بخط يحيى بن يعمر. وروى القفطي أنه رأى بمصر في زمن الطلب بأيدي الوراقين جزءا فيه أبواب من النحو يجتمعون إنها تقدمة علي بن أبي طالب التي أخذها عنه أبو الأسود الدؤلي.

نستنتج من هذه الأخبار وغيرها كثير أن أبا الأسود كان على رأس العلماء الذين أطالوا التفكير في مشكلة الرسم القرآني والعربية بعامة وكانت لديه نتائج وحلول لهذه المشكلة لكنه كان مشغولاً بقضايا السياسة والقضاء في أثناء خلافة الامام علي  فظل محتفظاً بملاحظاته التي أخذها عن الامام علي في تقسيم الكلم وما أشار به عليه مع ما تهيأ له من أفكار من استقرائه وتجاربه. وذكرت أنّه كان ضنيناً بما أخذ عن أمير المؤمنين علي لا يُطْلعُ عليه أحداً لكنه بعد مقتل الامام علي وقيام الحكم الأموي تفرغ إلى العلم لإظهار ما كان يخفيه لضرورة ثم انه اهتدى لوضع رموز حركات الإعراب، وهي أول عمل وضعه وحلّ مشكلة الرسم القرآني، ومنها كانت مصطلحات النحو الأولى من قوله للكاتب الذي اتخذه من عبد القيس وطلب إليه أن يضع النقط على وفق قراءته القرآن قائلاً: "إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه فإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف فإن أتبعت شيئاً من ذلك غنّة فاجعل مكان النقطة نقطتين".

لقد اتخذت مصطلحات الضمة والفتحة والكسرة أو الخفضة والتنوين من قول ابي الأسود المذكور، وأكمل العمل بعده نصر بن عاصم (ت٨٩هـ) تلميذه بوضعه نقط الاعجام الذي يميز بين الحروف المتشابهة، وبهذين العملين حلت مشكلة الرسم القرآني وفي عهد الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت١٧٥هـ) أبدل نقط أبي الأسود بالحركات المعهودة أخذها من أصوات اللين الفتحة من الألف والكسرة من الياء والضمة من الواو.

لقد استمرت أجيال من العلماء بعد أبي الأسود وتلامذته في تطوير ما بدأ واضع رسومه الأولى الامام علي  ، وقد نفذها وأشاعها تلميذه وصاحبه أبو الأسود حتى أصبح علماً له أصوله وأبوابه في (الكتاب) الذي صدر عنه النحويون في مختلف مذاهبهم. فالبداية في الوضع هي أصعب المراحل في كل علم، لكنها سهلت على يد من كان أقضى أهل زمانه كما وصفه النبي  وأعلمهم بالفقه والشريعة كما كان له السبق في أصول الكلام والفلسفة وكان لعلمه الواسع أثر في أصحاب المذاهب، وكان واسع المعرفة بأساليب العربية التي وعاها من الثقافة النبوية والقرآنية منذ صباه، وكان له إبداع في التطبيق وإبداع في أساليب الفن اللغوية في كلامه كما كان له السبق في الاشارة إلى وضع ما يصلح الخلل اللساني الذي ظهر و أخذ يشيع في المجتمع الإسلامي،للحفاظ على لغة القرآن الكريم.

إن قارئ نهج البلاغة يجد فيه كل أسباب الفصاحة والبلاغة في تفصيله وايجازه وفي تركيبه وأساليبه تجاوزه النحويون في أثناء وضعهم أصول النحو بعد ظهور ملامحه للأسباب التي جعلتهم يستشهدون بكلام يجانب الاعراب ولا يكثرون النظر في الحديث النبوي وكلام سيد الفصحاء  بسبب السياسة الأموية المنحرفة عن العدالة والحق .

ففي الوقت الذي استضاء به الفقهاء وأصحاب الكلام وأصحاب الفلسفة والزهاد والمتصوفة كما كان ذا أثر في المذاهب على اختلافها ونهجا للأدباء تجاوزه النحويون كما تجاوزوا الحديث الشريف إلا نادراً في الإفادة والاستشهاد.

ولئن نهدنا لإعرابه وبيان معانيه لهو كان الدافع الأول لأبي الأسود الدؤلي قاضيه على البصرة لإبداع أولى بنيات النحو، والتفكير بوضع رموز الاعراب وهو ما سمي بنقط الاعراب الذي انطلق منه التفسير اللغوي للقرآن الكريم وكان أساسا للنحويين و أقاموا النحو على أسس مفاهيمه .

نرجو منه تعالى السداد والتوفيق

****************************