من الخصائص التي تميز بها أمير المؤمنين علي عليه السلام القدرة الفائقة على نظم خطبه ومواعظه وكتبه ورسائله وحكمه بأسلوب بلاغي وإنشائي جذاب وبلفظ فصيح وقوي سريع التأثير في النفوس لا يرقى إليه أحد، فتعلم الناس منه علوم البلاغة .
قال ابن أبي الحديد رحمه الله في شرح نهج البلاغة١/٢٤ في تعداده لفضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام، ما لفظه: (وأما الفصاحة فهو عليه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق، ومنه تعلم الناس الخطابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت.
وقال ابن نباته: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.
ولما قال مِحْفن بن أبي مِحفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس! فوالله ما سنَّ الفصاحة لقريش غيره). انتهى.
وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه عبقرية الإمام علي ص١٤٣ـ١٤٤: (وليس الإمام علي أول من كتب الرسائل وألقى العظات، وأطال الخطب على المنابر في الأمة الإسلامية، ولكنه لا ريب أول من عالج هذه الفنون معالجة أديب، وأول من أضفى عليها صبغة الإنشاء الذي يقتدى به في الأساليب؛ لأن الذين سبقوه كانوا يصوغون كلامهم صياغة مبلِّغين لا صياغة منشئين، ويقصدون إلى أداء ما أرادوه، ولا يقصدون إلى فن الأداء وصناعة التعبير، ولكن الإمام عليًّا تعلم الكتابة صغيراً، ودرس الكلام البليغ من روايات الألسن وتدوين الأوراق، وانتظر بالبلاغة حتى خرجت من طور البداهة الأولى إلى طور التفنن والتجويد، فاستقام له أسلوب مطبوع مصنوع، هو فيما نرى أول أساليب الإنشاء الفني في اللغة العربية، وأول أسلوب ظهرت فيه آثار دراسة القرآن والاستفادة من قدرته وسياقه، وتأتَّى له بسليقته الأدبية أن يأخذ من فحولة البداوة ومن تهذيب الحضارة، ومن أنماط التفكير الجديد الذي أبدعته المعرفة الدينية والثقافة الإسلامية، فديوانه الذي سمي (نهج البلاغة) أحق ديوان بهذه التسمية بين كتب العربية). انتهى.
وهكذا نرى أن الإمام علياً عليه السلام استطاع بأسلوبه ذلك أن يصوغ الكلام صياغة بليغة في مختلف المناحي الدينية والفكرية، وفي شتى الميادين العلمية والعملية، وهو في كل ذلك يحافظ على الجمال في التعبير، وسرعة تغلغله في طوايا النفوس وتأثيره، وشمول مدلوله وتركيبه، وهاك على سبيل المثال قوله: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، فهذه الحكمة الجامعة تلقى من علماء البيان أشد الإعجاب وأصدقه .
فها هو الجاحظ المعروف بأدبه وعلمه عند الخاص والعام، ينقل عنه الشهيد مرتضى المطهري في كتابه (في رحاب نهج البلاغة) ص٢٣، ينقل عنه ثناءه على هذه الحكمة في كتابه (البيان والتبيين): (فلو لم نقف من كتابنا هذا إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية، وكأن الله عزَّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله).
هـذا بالإضافة إلى المكانة السامية التي تبوأها الإمام علي عليه السلام في حياة المسلمين وتأريخهم منذ بزوغ فجر الدعوة النبوية، وموقعه من نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإيثاره له وإشادته بمناقبه وفضائله وإظهار خصائصه ومزاياه على جموع الملأ من الناس وفي مختلف المحافل، كل تلك العوامل مجتمعة وغيرها كانت دوافعاً قوية لالتفاف الناس حوله وإقبالهم على استماع كلامه ومواعظه والحرص الشديد على حفظها، ليشكل ذلك لهم منهجاً وسلوكاً يسيرون على ضوئه، ويحتذون على مثاله، فأمير المؤمنين علي عليه السلام مع الحق والحق معه، كما قاله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
فحفظ الناس كلامه عليه السلام وتداولوه فيما بينهم، ونقله السلف للخلف رواية وتلقيناً، ودرساً وتدريساً، وألّفوا لجمعه وتدوينه الكتب .
يقول الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في مقدمة تحقيقه لكتاب (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد ١/٥-٦، بعد سياقه لسرد بعض خصائص الإمام علي عليه السلام، ما لفظه:
(كل هذه المزايا مجتمعة، وتلك الصفات متآزرة متناصرة، وما صاحبها من نفح إلهي، وإلهام قدسي، مكَّنت للإمام علي من وجوه البيان وملكته أعنة الكلام، وألهمته أسمى المعاني وأكرمها، وهيَّأت له أشرف المواقف وأعزها، فجرت على لسانه الخطب الرائعة، والرسائل الجامعة، والوصايا النافعة، والكلمة يرسلها عفو الخاطر فتغدو حكمة، والحديث يلقيه بلا تعمل ولا إعنات فيصبح مثلاً؛ في أداء محكم، ومعنى واضح، ولفظ عذب سائغ، وإذا هذا الكلام يملأ السهل والجبل، وينتقل في البدو والحضر، يرويه على كثرته الرواة، ويحفظه العلماء والدارسون؛ قال المسعودي: والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، تداول عنه الناس ذلك قولاً وعملاً. ثم ظل هكذا محفوظاً في الصدور، مروياً على الألسنة، حتى كان عصر التدوين والتأليف؛ فانتثرت خطبه ورسائله في كتب التأريخ والسير والمغازي والمحاضرات والأدب على الخصوص، كما انتخبت كلماته ومأثور حكمه فيما وضعوه من أبواب المواعظ والدعاء، وفي كتابي الغريب لأبي عبيد القاسم بن سلام ، وابن قتيبة منه الشيء الكثير ).
قال: (وإذا كان لكلام الإمام علي طابع خاص يميِّزه عن غيره من الخطباء، ونهج واضح يخالف غيره من البلغاء والمترسلين، فقد حاول كثير من العلماء والأدباء على مرِّ العصور أن يُفردوا لكلامه كتباً خاصة ودواوين مستقلة، بقي بعضها وذهب الكثير منها على مر الأيام؛ منهم نصر بن مزاحم صاحب (صفين) ، وأبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي ، ومحمد بن عمر الواقدي ، وأبو الحسن علي بن محمد المدائني ، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ، وأبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي ، وعبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد التميمي ، ورشيد الدين محمد بن محمد المعروف بالوطواط ، وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد ، وغيرهم كثيرون، إلا أن أعظم هذه المحاولات خطراً وأعلاها شأناً، وأحسنها أبواباً، وأبعدها صيتاً وشأواً هو مجموع ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي في كتابه نهج البلاغة) . انتهى.
وهذا يفسر لنا مدى الاهتمام الكبير الذي لقيه وحظي به كلام الإمام علي عليه السلام من قبل كوكبة من العلماء والمؤلفين والباحثين، ومنذ بداية عصر التدوين والتأليف، فجمعوا كلامه عليه السلام وأفردوا له كتباً خاصة به، ويوضح بدوره الأهمية العلمية الكبيرة المشتمل عليها كلامه عليه السلام، إذ أنه يشكل بدوره رافداً من روافد العطاء الديني والفكري والروحي والعلمي لدى جميع المسلمين، يشهد بصحة هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها))، وغير ذلك من الأحاديث النبوية الواردة في هذا الباب.
وإذا كان من سبق ذكره من العلماء والمؤلفين ممن قد اهتموا بتدوين وجمع كلام الإمام علي عليه السلام في مؤلفات وكتب خاصة، فهناك أيضاً طائفة أخرى كثيراً منهم، قد رووا وأوردوا كثيراً من كلامه عليه السلام في بعضٍ من مؤلفاتهم منهم:
الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني المتوفى سنة ٤٢٤ه الملقب بالناطق بالحق، فقد أخرج الكثير منه في كتابه الإمالي المسمى (تيسير المطالب في أمالي أبي طالب)، وسواء كان مذكوراً في كتاب نهج البلاغة أم في غيره، وهو في جميع ذلك يرويه مسنداً إلى الإمام علي عليه السلام، ومنهم الإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل الجرجاني المتوفى، سنة ٤٣٠ه تقريباً، فقد أخرج وروى في كتابه (الاعتبار وسلوة العارفين) الكثير من كلام الإمام عليه السلام، وروى الأغلب والأكثر منه مسنداً، بل كان في بعض من ذلك يرويه مسنداً ومن عدة طرق، فيذكرها جميعاً، ومنهم الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري المتوفى سنة ٤٧٩ه، فقد أخرج وروى في كتابه المسمى (الامالي الخميسية) كثيراً من كلام الإمام علي بن عليه السلام، رواه جميعه مسنداً إلى الإمام علي عليه السلام، ومنهم الحافظ ابن عساكر الدمشقي الشافعي المتوفى سنة ٥٧١ه، فقد أخرج وروى في (ترجمة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب من تأريخ دمشق) الكثير من ذلك، وهو في جميع ذلك يرويه مسنداً إلى الإمام علي عليه السلام، هذا ومتابعة هذا الموضوع يطول جداً والغرض الإشارة.
ولما ظهر كتاب (نهج البلاغة) الذي جمعه الشريف الرضي رحمه الله، وأورد فيه ما اختاره من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام، انبرى بعض من المتأخرين والمغرضين إلى التشكيك في صحة نسبته إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، وبنوا ذلك على أسس أوهى من خيط العنكبوت، ومزاعم نسجتها خيالاتهم وأوهامهم، لا تثبت بها أدنى حجة، ولا يقبلها عقل ولا لب، وهم في كل تلك التشكيكات والمزاعم لم يضيروا (نهج البلاغة) وصحة نسبة ما فيه إلى الإمام علي عليه السلام بشيء، ولم يرجع ضرر تلك التخرصات والتقولات إلا على أصحابها، فكتاب (نهج البلاغة)، لم تبله تلك المزاعم ولم تؤثر فيه، فهو باقٍ وموجود بين أيدي العلماء والدارسين منذ جمعه، يتناقلونه ويتدارسونه ويرويه خلف عن سلف، وتزداد شروحه والدراسات والكتابات والبحوث حوله يوماً فيوماً، وفي مختلف العصور منذ أن جمعه الشريف الرضي وإلى عصرنا الحاضر، وفي كل ذلك تظهر محاسنه فيزداد جمالاً وبهاءً، ويتسع ظهوره وانتشاره، وصدق من قال:
وبضدها تتبين الأشياء وقول من قال: والضد يظهر محاسنه الضد .
فمما زعموا من ذلك، أن الشريف الرضي أو أخاه الشريف المرتضى هما أو أحدهما قام بوضعه ونسبته إلى الإمام علي عليه السلام، وزعمهم هذا يكذبه ويرده، أن من سبق الشريف الرضي وأخاه، وبأكثر من مائتي سنة أو أقل ممن سبق ذكرهم وغيرهم قد أوردوا أكثر مما في (نهج البلاغة) في مصنفاتهم، ففي كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الذي توفي قبل ولادة الشريف الرضي وأخيه الشريف المرتضى بأكثر من مائة وخمسين عاماً قد ذكر وأورد في كتابه ذلك بعضاً مما ورد في كتاب نهج البلاغة، وذكر أن قائله هو الإمام علي عليه السلام، ومثله ذكره المسعودي في كتاب مروج الذهب، وهو أي المسعودي قد توفي قبل ولادة الشريف الرضي .
ومن هذا القبيل ما ذكره ابن أبي الحديد رحمه الله في شرح نهج البلاغة ١/٢٠٥ في شرحه للخطبة الشقشقية قال: (قال مصدق : كان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة -أي الخطبة الشقشقية- فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها من كلامه كما أعلم أنك مصدق، قال: فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون: إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى، فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النَّفَسُ وهذا الأسلوب، قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر، ثم قال: لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب، قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.
قال ابن أبي الحديد: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي، إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجوداً). انتهى.
أكتفي هنا بمثل هذا إذ تفصيل ومتابعة ذلك يطول جداً، وقد ظهرت حديثاً الكثير من الدراسات والكتابات حول هذا الموضوع وردَّت على المشككين وذكرت مصادر كلام الإمام علي عليه السلام وأسانيده .
ومن أراد التوسع فلينظر كتاب (مصادر نهج البلاغة) لعبد الله نعمة، وكتاب (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) لعبد الزهراء الحسيني، وكتاب (دراسة حول نهج البلاغة) لمحمد جواد الحسيني الجلالي فجميع أولئك أعطوا جُلَّ اهتمامهم على البحث والمناقشة والنظر في مزاعم المشككين فردوا عليهم ذلك وفندوها، وأوضحوا بالبحث مصادر نهج البلاغة وأسانيده، فوثقوا كلام الإمام علي عليه السلام الوارد في كتاب النهج وعزوه إلى مصادره وتوسع البعض إلى ذكر أسانيده، وهؤلاء الباحثون المشار إليهم آنفاً هم من صفوف الشيعة الإمامية اهتموا بجميع ذلك، ولا زالت دراساتهم وبحوثهم تتوالى حول هذا الموضوع، لكنهم للأسف الشديد يهملون الرجوع إلى المصادر الزيدية التي حفلت بالكثير من كلام الإمام علي عليه السلام مسنداً، وعلى وجه الخصوص أمالي الإمام أبي طالب، والاعتبار وسلوة العارفين للإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل الشجري، والأمالي الخميسية للإمام المرشد بالله وغيرها، وقد أعذرهم بعض الشيء إذ لم يكن بعض هذه المصادر مطبوعاً، أما اليوم فهي أو أغلبها والحمد لله مطبوعة منشورة.
هـذا وقد تصدى للمشككين في صحة نسبة ما في كتاب (نهج البلاغة) إلى الإمام علي عليه السلام ابن أبي الحديد رحمه الله تعالى في (شرح نهج البلاغة)، فقال ما لفظه: كثير من أرباب الهوى يقولون: إن كثيراً من (نهج البلاغة) كلام محدث، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات الطريق، ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط .
فأقول: لا يخلو أن يكون كل (نهج البلاغة) مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأول باطل بالضرورة، لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني يدل على ما قلناه؛ لأن من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمُولَّد، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلا بد أن يفرّق بين الكلامين، ويميّز بين الطريقتين.
ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان أبي تمام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسهِ، وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه، لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نُواس شيئاً كثيراً، لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه، ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة.
وأنت إذا تأملت (نهج البلاغة) وجدته كله ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعضٌ من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره، وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولاً وبعضه صحيحاً، لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
واعـلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قِبل له به، لأنّا متى فتحنا هذا الباب وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع، وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكل أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الراشدين، والصحابة والتابعين، والشعراء والمترسلين والخطباء، فلناصري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من (نهج البلاغة) وغيره، وهذا واضح) .