![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/besmellah.png)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/mola.png)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/fi_rahab.jpg)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/haram.jpg)
![](https://arabic.balaghah.net/sites/all/themes/nahjArabic/image/nahj.jpg)
السيّد أحمد الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد والمجد
الشريف الرضي محمد بن الحسين الموسوي البغدادي ، شاعر طالبيّ مُفْلِق مكثر ، سار شعرُه في دنيا الأدب سيرَ الشمس عند الظهيرة ، وأذعن معاصروه – بما فيهم من وفرة الشعراء والممتازين من أرباب القول والكلام – بتقدَمه في الشعر وإمامته في الأدب ، مع ما عُرف قديماً بأنّ الشاعر المكثر تقلَ محاسن شعره ويكثر المبتذّل في نظمه.
«إبتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل ، وهو أبدع أبناء الزمان ... ثمّ هو أشعر الطالبيّين ، من مضى منهم ومن غَبَر، على كثرة شعرائهم المُفْلِقين ... ولو قلتُ إنّه أشعر قريش لم أبعُد عن الصدق، وسيشهد بما اُجريه من شعره العالي القِدْح الممتنع عن القَدْح ، الذي يجمع إلى السلاسة متانة ، وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جَناها ويبعد مداها» [١] .
«وله شعر إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه ، وعقد بالنجم نواصيه ، وإذا نُسب انتسب الرقة إلى نسيبه ، وفاز بالقِدْح المعلّى من نصيبه ... وورد شعرُه دِجْلَتها – أي بغداد – فشرب منها حتى شَرَقَ ، وانغمس فيها حتى كاد أن يقال غَرَقَ» [٢] .
وقد «يسمّيه الاُدباء النايحة الثكلى لرقّة شعره... ويقال : أشعر قريش. قلت معناه أنّه ليس لقرشيّ كثرة جيّدة» [٣] .
قال الخطيب البغدادي: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الكاتب بحضرة أبي الحسين بن محفوظ – وكان أحد الرؤساء – يقول: سمعتُ جماعة من أهل العلم بالأدب يقولون: الرضيّ أشعرُ قريش . فقال ابن محفوظ: هذا صحيح. وقد كان في قريش من يُجيد القول إلاّ أنّ شعره قليل ، فأمّا مجيد مكثر فليس إلاّ الرضيّ [٤] .
نعم «إنّ شعر الشريف الرضي – وان يكن قديم الاُسلوب – ظاهرُ البلاغة ، عالي النَفَس مديده ، قويُّ النسج، واضحُ التعابير، فيه مَتانة وسهولة ورَصانة ، تظهر فيه شخصية صاحبه ، شخصية نبيلة عزيزة النفس أبيّة طموح ، وقلّما قرأت له قصيدة – في أي نوع من أنواع الشعر – إلاَ أحْسَسْتَ فيها روحَ الفخر وشكوى الزمان والشيب» [٥] .
من طريف ما صنعه أديب متذوّق من أدباء القرن الخامس الهجري، أن أجري مفاضلة بين شاعرين فحلين لهما شهرة وصيت في عالم الأدب العربي في تلك الحَقْبَة الزمنية وما تلتها من الأحقاب، هما الشريف الرضي محمد بن الحسين الموسوي البغدادي والقاضي أبو أحمد منصور بن محمد الأزدي الهروي ، شاعرا العراق وخراسان وفحلا القطرين المتسابقين في حلبة الأدب.
قدّم أديبنا الذوّاقة قصيدة رائيّة للرضيّ وقصيدة دالية للهرويّ، معتذراً عن عدم وقوفه على قصيدتين لهما من قافية واحدة في غرض مشترك حتى تتمَّ عناصر المفاضلة بين الشاعرين ، فاختار هاتين القصيدتين وقدّمهما للمفاضلة بين الشاعرين لأنّه يعلم أنّ الأديب يستدلّ بمباني الكلام ومعانيه وصيغة ألفاظه على درجة الشاعر ، ويميز بين المتقدّم الفاضل عن المتأخّر المفضول.
أمّا الأديب الذي أجرى المفاضلة وأتحفنا بهذه الدرّة اليتيمة من هو؟
فهذا سؤال لم نهتد إلى جوابه، إلاّ أنّه يبدو من تقديمه المقتضب للقصيدتين رفيع أدبه الشعري والنثري ،بالإضافة إلى قول إسماعيل الأديب فيه عند حكومته بين الشعرين : «ولولا اقتراح هذا الفاضل ، المحتوي على أجناس الفضل، المتشبّث بأفنان فنون الأدب ، لما أثبتُّ هذا الفصل».
وأمّا المشاركون في هذه الحكومة الأدبية ، فهم:
١- الفضل بن إسماعيل.
٢- أبوالحسن علي بن أحمد الواحدي، المتوفّى سنة ٤٦٨ .
٣- أبو نصر صاعد بن الحسين الزوزني .
٤- زكريا بن الحسن بن زكريا الزوزني.
٥- إسماعيل بن الحسن الأديب.
إتّفق هؤلاء الاُدباء على تقدّم شعر الرضي على شعر الهروي ، وأنّه أعلى شأواً ، وأسنى مقصداً ، وأشرق لفظاً ، وأعمق معنى، مع اختلافهم في تعابيرهم واحتياط بعضهم في الحكومة.
ويزيدُ في قيمة هذه المفاضلة أنّ قصيدة الرضيّ من شعره غير المنشور ، فإنّها لم ترد في ديوانه المطبوع في مطبعة نخبة الأخبار بالهند سنة ١٣٠٦، ولا في طبعة دار صادر ببيروت. ويكفي لإثبات نسبتها إليه أنّ هؤلاء الاُدباء المعاصرين له أو المقاربين لعصره سجّلوا حكومتهم من غير شكّ أو ترديد في صحّة النسبة.
الشريف الرضي محمد ابن الطاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، الموسوي العلوي البغدادي.
نشأ في كنف والده أبي أحمد منشأ جمع كل صفات النبوغ والتقدّم، وعُني بتربيته شيخ الشيعة محمد بن محمد بن النعمان المفيد التلعكبري البغدادي عناية جعلته من الأعلام البارزين الذّين يفتخر بهم التاريخ الإسلامي عبر القرون.
كان مبرزاً فاضلاً، عالماً ورعاً، عارفاً بالفقه والفرائض معرفة قوية، إماماً في اللغة والعربية لا يُشقُّ غبارُه ، مترسّلاً ذا كتابة جيدة، أوحد الرؤساء، عظيمَ الشأن ، رفيعّ المنزلة، له المكانة العالية عند خلفاء زمانه وملوك عصره.
بدأ دراسته على الشيخ المفيد في سنّ مبكرة، وقرأ عند أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد ابن محمد الطبري ، وابن السيرافي النحوي ، وغيرهما.
وكان شاعراً مُفْلِقاً، فصيحَ النظم ، ضخمَ الألفاظ ، قادراً على القريض ، متصرّفاً في فنونه، وهو أشعر الطالبيّين، ويقال أشعر قريش. إبتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل، وجُمع شعرُه في ديوان ضخم بتداوله دارسو الشعر العربي.
وكان عفيفاً شريف النفس ، عاليَ الهمّة ، ملتزماً بالدين وقوانينه، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة ، حتى انّه ردّ صلات أبيه . وقد اجتهد بنو بويه على قبوله صلاتهم فلم يقبل منهم شيئاً.
من مؤلفاته «نهج البلاغة» و«تلخيص البيان عن مجازات القرآن» و«المتشابه في القرآن» و«مجازات الآثار النبويّة» و«رسائله إلى الصابي».
توفّي رحمه الله في شهر محرّم الحرام سنة ستّ وأربعمائة – وقيل أربع وأربعمائة - وحضر الوزير فخر الملك وجميع الأعيان والأشراف والقضاة جنازته والصلاة عليه، ودفن في داره بمسجد الأنباريّين بالكرخ، ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام، لأنّه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه، وصلّى عليه فخر الملك أبوغالب، ومضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي، فألزمه بالعود إلى داره.
(أنظر: يتيمة الدهر ٣/١٣٦، دمية القصر ١/٢٨٨، رجال العلامة الحلّي ص ١٦٤، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١/٣١، الدرجات الرفيعة ص ٤٦٦، وفيات الأعيان ٤/٤١٤، الوافي بالوفيات ٢/٣٧٤، شذرات الذهب ٣/١٨٢، روضات الجنّات ٦/١٩٠، رياض العلماء ٥/٧٩).
القاضي أبو أحمد منصور ابن القاضي أبي منصور محمد – ويقال أحمد – الأزدي الهروي.
كان فقيهاً، كثيرَ الفضائل، حسنَ الثمائل، قاضي هراة.
تفقّه على أبي أحمد الاسفرايني في بغداد ، وسمع أبا الفضل بن حمدويه والعباس بن الفضل النضروي وغيرهما.
وكان شاعراً مجيداً، كثيرَ الشعر مختلفَ الأغراض، يبلغ ديوانه أربعين ألف بيت. كما أنّه كان ناثراً بليغاً ، له رسائل في منتهى البلاغة والفصاحة.
قال الباخرزي في دُمية القصر: «أفضلُ مَن بخراسان على الإطلاق وأطبعهم بالإتّفاق، يرجع إلى نظم أحسن من انتظام الأحوال، ونثر كما يهيّء الدرّ عن اللآل... وقد اُوتي حظّاً وافراً من حياته، وبلغ أرذلَ العمر من وفاته، فانطعن تحت رحيّاته ، وأثّر فيه الهرم تأثيراً نشف ريَّه وأطر سَمْهَريَّة ، وحجب طرفّه وإن لم يحجب ظرفه، وكفَّ ألحاظه وإن لم يكفّ ألفاظه ، وقصَّر، من خطواته وإن لم يقصّر من خطراته».
توفّي سنة أربعين وأربعمائة.
(اُنظر: دمية القصر ٢/٨٩، معجم الاُدباء ٩/١٩١، يتيمة الدهر ٤/٣٤٧، الأعلام للزركلي ٧/٣٠٣).
نسخة «المفاضلة» المخطوطة التي رجعنا إليها ، من نوادر مكتبة آية الله المرعشي العامة في قم، وهي مجموعة برقم (٤٠٤٧) معها رسائل اُخرى كما يلي:
١- ديوان شعر ، لم نعرف صاحبه.
٢- المفيد في التصريف، للزمخشري.
٣- المفاضلة بين الرضي والهروي.
٤- الزاجرة للصغار عن معارضة الكبار ، للزمخشري.
٥- اُدباء الغرباء، لأبي الفرج الإصبهاني.
٦- نزهة العشّاق ونهزة المشتاق ، لعين القضاة الهمداني.
٧- حسيب النسيب للحسيب النسيب، للراوندي.
هذه المجموعة النادرة كتب في القرن السابع الهجري بخطوط أشخاص يظهر أنهم كانوا من المعنيّين بالأدب العربي. ورسالة «المفاضلة» بخطّ أبي نصرعتيق بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن بن خليل بن عمر بن سنان الصدّيقي، كتبها في جمادى الاُولى سنة ٦٥٧، وهي بخط نسخ مشكول لا يخلو من قوّة.
والرسالة مع وضوح خطّها بقي فيها كلمات لم يتبيّن لنا وجه الصواب فيها، فقوّمنا بعضَها بالقياس والتخمين وأبقينا بعضَها كما هي، مع الإشارة في التعليق إلى ما قوّمناه وإلى ما أبقيناه.
أما بعد :
فهذه زهرة ناضرة تبهج النواظر ، وباقة عَطِرة تفرح الخواطر ، وطُرفةٌ أدبيّة كانت مطمورة في زوايا الخمول ، أبرزتُها من خِدْرها كما يراها القَراء الأفاضل، علَّها تُرضي ذوقهم الأدبي وتنال منهم الرضى والقبول.
والله تعالى من وراء القصد.
السيّد أحمد الحسيني
قم – إيران
المفاضلة بين الرضي والهروي
ذكر المولى بالتقديم أولى
أفاضلَ أهل نَيسابورَ أصغُوا ***** إلى دُرر كأمثالِ الدَّراري
وقولوا واحكموا بالعَدلِ فيها ***** فإنّ العدلَ مُتَّضَحُ المَنار
بحكمِ فَيصل أبدى ضياءاً ***** لذي عينينِ من وَضّحِ النهار
ءأشعار الرضيّ لديكمُ ارْضى ***** وأدخل في نظام الاختيار
أم القاضي أحقُّ بذاك منه ***** وأسبق في مَيادين الفخار
فأنتم كالنجوم الزُّهْرِ ضَوءاً ***** وإنّ الفضلَ كالفَلَكِ المُدار
لم أجد إلاّ [٦] كلمتين [٧] على قافية واحدة من بحر واحد في معنى معيّن ، بَيْدَ أنّي تخيّرتُ قصيدتين من بحر الكامل وإن اختلفت القوافي والمعاني، فإنّه يُستدَلُّ بمباني الكلام ومعانيه وصيغة ألفاظه على درجة الشاعر في معرفة جيِّده من رديّه ومعوجَّه من مستقيمه، والرجلان فَحْلا خراسانَ والعراق ومن يثنى عليهما الخَناصِرُ [٨] بالإتّفاق.
فليرجِّح كلُّ واحد مَن هو أشعرُ عنده وأجزلُ لفظاُ وأصحُّ معنى، فإنّ للناس في الشعر طرائقَ ومذاهبَ، والكلام فنونٌ وأساليبُ.
والله المستعان، وصلّى الله على نبيّه محمّد وآله الطاهرين.
قال القاضي أبو أحمد منصور بن محمد الأزدي الهروي :
قد زار طّيفُك لوألَمَّ [٩] براقِدِ ***** أهلاً به من زائر بل عائد
ما كان طَيْفاً طافَ لكن خَطْرة ***** خَطَرَتْ على قلبي المُعَنٌى الواجد [١٠]
فتما ثَلَتْ فيهِ خيالأ زائراً ***** أوْلا فكيف يصحّ رؤيا السّاهِدِ [١١]
أفدي الذي وَدّعتُ يومَ وداعهِ ***** قلبي وصبري في نظام واحد
رشأ [١٢] حكى بَدْرَ السماء طلاقة ***** بطلاقة وتَباعُداً بِتَباعُد
إمّا رَنا [١٣] خَجِلَ الغزالُ ، وإنْ مشى ***** لَم يعتَدِلْ قَدُّ القضيب المائد [١٤]
ياهاجراً ذِكراه تأبى هَجْرَهُ ***** وَمُباعِداً والطيفُ غيرُ مباعِد
لوشئتَ علَّلْتَ المحبَّ بموعدٍ ***** لا تَبْخَلَنَّ فلستَ أصْدَقَ واعِد
خَلّفْتَني أعْدُو بصبر ناقص***** وجوى [١٥] على مرِّ الليالي زائد
وإذا عَزَمتُ على التَجلُّدِ رَدَّني ***** شَرْخُ الشبابِ [١٦] وثقلُ حُبٍّ راكد
ولربَّما لا قَيتُ أسبابَ الهَوى ***** بجَوانح [١٧] صُمٍّ وطَرْفٍ جامد
ولقد تركتُ لك المذاهبَ كلَّها ***** وهجرتُ فيكَ طرائقي ومقاصدي
حسبي جَميلُ تَصَبُّري وَتَجلُّدي ***** إنْ صابَني دَهرٌ بِصَوْبِ شدائد [١٨]
أنسَيْتُ أنْ مَدَّ الظَلامُ رواقَهُ ***** منّا على شَفْع كشخص فارد
بُتْنا وحارِسُنا الدُّجى وكأنّنا ***** صَفْوالمُدامَةِ بالزَّلالِ البارد
ولقد عزمتُ على السِّحاب الجَونِ [١٩] في***** سُقْيا رُسوم بالحِمى ومعاهد
دَمِنٌ صَحِبتُ الدهرَ في عَرَصاتِها ***** نَشْوانَ مُشتَمِلاً بثبوبِ مُساعد [٢٠]
حينَ الصِّبا وافى الذوائبَ والهَوى ***** عَذْبُ المَواردِ مُعْرِض للوارد
زَمَنٌ تَصَرَّمَ وانْقضى فكأنَّهُ ***** طَيْفُ الخَيال رأتهُ عينُ الهاجد [٢١]
رَقَّتْ حواشيهِ كما رَقَ النَّدى ***** في أخضَر نَضِر وَأحمرَ جاسِد [٢٢]
وصَفا فَلَو أنَي عدلتُ عدلتُه ***** بشمائلِ الشيخ الجليل الماجدِ
قَدْ فَلّ صَرْفُ الدهر حدَّ عزائمي [٢٣] ***** جِدّاً وكدَّرتِ الخطوبُ مَواردي
وَأرى الليالي قَصَّرَتْ باعي وَلوْ ***** اُنْصِفْتُ ألْفَتْني طويلَ الساعِد
وَثَنَتْ عِناني جُهْدَها وَلَو انّها ***** أطْلَقْنَ مِنهُ بانَ سَبْقُ الذائد [٢٤]
وَغَدا الزمانُ مُعاندي وَلَو انّهُ ***** عَرَفَ الرجالَ لكانَ غَيْرَ مُعاندي
وَسَعى يَرومُ ليَ الفسادَ وَلَو دَرى ***** منْ عُدَّتي لَسَعى لِيُصْلِحَ فاسدي
وأنا الشَّهابُ خَفَيْتُ في أرضي وإنْ ***** سافرتُ لاح سَنا الشِّهابِ الواقد [٢٥]
وأنا الحُسامُ انقَضَّ عَنْي رَوْنَقي ***** وَبُليتُ مِنْ صَرْف الزمانِ بغامِدِ [٢٦]
وَلَقدْ صَعُبْتُ فما تَلينُ معاجِمي ***** للعاجِمينَ ولا تُحَلُّ معاقِدي [٢٧]
وَاشْتَطَ حُسّادي وإنْ ظَفَرَت يَدي ***** بأبي المظفَّر ثاخَ نجمُ الحاسدِ [٢٨]
لقد اهتدَيتُ من الوزير بكوكب ***** في ظُلمة الأيام ليس بخامد
ومن اغتدى الشيخ الجليل عميده ***** لم يخش عادية الزمان المارد [٢٩]
وَمَن اسْتَظَلَّ ذَراهُ [٣٠] أدرك ما ارْتجى ***** في ظِلِّ فضل منهُ باد عائد
رجلٌ يُجيرُ على الحوادثِ جارَهُ ***** ويُبيحُ خِصْبَ جَنابهِ للرائد
وَيُفيضُ في طَوْرَيْهِ [٣١] صَوْبُ سَمِينِه ***** كالغيثِ [بَيْنَ] [٣٢] بَوارق وَرَواعِدِ
مُتَدَرِّعٌ حُلَلَ الأمانةِ باذلٌ ***** لِلْمُلْكِ إشفاقَ النصيح الجاهد
وإذا دَجَتْ قُحَمُ الخطوب سِمالَها [٣٣] ***** بِعَزائم لدُجى الخطوب طَوارِد
وإذا بنى أكرومَة بلغَ المَدى***** تَثبيتَ أركان ورفعَ قواعد
خُلْقٌ كما ابتسمَ الربيعُ وطَلْعَةٌ ***** كالبَدر أشرقَ في الظلام الحاشد
وأغَرُّ رَحْبُ الباع نالَ مَراتباً ***** في المَجدِ طالِبُهنَّ ليسَ بواجد
يا مَنْ لَو انَّ الناسَ أيامُ الهوى ***** كان الوصالُ عَقيبَ هُجْر آمِد [٣٤]
وَلَو انَّهم كانوا فُصولَ زَمانِهمْ ***** كانَ ابتساماً في الربيع الوافد
لمّا ذَكرتُكَ في القريض أفَدْثُهُ ***** فخراً يدومُ على الزمان الخالد
وَلَقدْ عَقدتُ على القوافي مِنّة ***** بلْ طُلْعَة ليست لها بجواحِد
كانتْ شواردَ نُفّراً حتّى دَرَتْ ***** مَن ذا مدحتُ فَجِئنَ غيرَ شوارد
وتزاحَمتْ فَلَو انّها مُختارةٌ ***** لَتَبَدَّلتْ كلماتُها بقصائد
خَلَصْتُها وَنَقدْتُها لكنّها ***** نُقِدَتْ مِنَ الشيخ الجليل لِناقِد
أصْدَرتُها وَلَو انَّني نِلتُ المُنى ***** لَصَحَبْتُها في ضمنِ لَفظ شارد
ولقدْ بَذَلتُ لكَ المودَّة مَحْضة ***** والله والقولُ المُنَقَّحُ شاهِدي
وَوَثِقْتُ مِنكَ بنيلِ ما أنا آمِلٌ ***** وَلَو انّهُ لَمْسُ النُّجوم لِقاعِد
وقال الشريف الرضي :
رُدُّوا الرٌّقادَ إلى المَشوق الساهر***** لِيَعُودَهُ طيفُ الخَيال الزائر
لَو كانَ عندي منهُ ما اُقْري به ***** طَيفَ الخيال لكانَ غيرَ مُهاجر
لِمَنِ الطُّلولُ بمنحني الأجزاع مِنْ ***** ذات الأراكة والكثيب العاقر [٣٥]
دارٌ بمُنعرَج اللِّوى والدَّيْرة الحمـ ***** ـراء مِنْ وادي الغضا لِتُماضِر [٣٦]
ألقى مراسِيَهُ بها وَتَهدَّلَتْ ***** منهُ العَزالى كلُّ مُزْن هامر [٣٧]
وَعَفَتْ معالِمَها الرياحُ فما بِها ***** إلا أثاف كالحَمام الواكِر
في كلّ يوم أرْسُمْ مِنْ تُوضح ***** تَعفُووَتَقْوى أرْبُعٌ مِن حاجر [٣٨]
حتى اُسائلَ كلَّ رَسْم دارس ***** عنهم وأبكي كلَّ رَبْع داثِر
كانتْ محلَّ أوانس وخرائد ***** فَغَدتْ مَرادَ كوانِس وجآذِر [٣٩]
ولرُبَّما آنَسْتُ في حُجُراتِها ***** بيضاء تُؤلمُها لحاظُ الناظر
ريّا المَعاصمِ خَدلَةٌ [٤٠] أزرارها ***** عُقِدَتْ بخوط الخيزُران الناضر
عَجْزاء ماضَمَّ الإزار كأنّهُ ***** رملٌ تخاذلَ مِن كثيب هاير [٤١]
عَرَّجتُ في عَرصاتِهنّ فلم أعُج ***** إلاّ على طَلَل كرَقْم الزابر [٤٢]
وذكرتُ أياماً هناك نَضَوْتُها [٤٣] ***** والذكرُ يُضعِفُ من عَناء الذاكر
فالله جارُهُم فإنْ شَطَّتْ بِهمْ ***** يومَ النّوى نُؤبَ الزمان الجائر
مِنْ مُؤمن [٤٤] أو مُشْئِم أو مُتْهِم ***** أو مُعْرق أو مُنْجِد أو غائر
ولقد زَجرْنا الراقصات نَواجياً ***** يَشْرَدْنَ أمثال النَّعام النافر
مِنْ كلَ ضاربة بعرْق واشِج[٤٥] ***** في السرِّ مِنْ آل الجَديل وداعر [٤٦]
وكأنَما قَد شُدٌ مِنها مَيْسُها [٤٧] ***** ما بينَ خافيَتَيْ عُقاب كاسر
مَحْفِيَّةُ ترمى بنا كَحَنِيَّة ***** تُرمى إلى غرض بسهْم ناقر
حتى نزلْنا ساحة نِلْنا بِها ***** عهدَ الأمان مِنَ الزمان الغادر
بمُوَطَّأ الأكناف مُقْتَرب الجنى***** مُستغرب الجدوى سعيد الطائر
عالي بسامي لحظِ عين المُجْتلى ***** مِنهُ إلى قمر السماء الزاهر
وَأغَرُّ يَجلو الحادثات كما جَلا ***** كِسْفَ الدُجى فَلَقُ الصباح الباهر
ومجيل أتراء يحدّث حدُّها***** في الخطْب عن حدِّ الصفيح الباتر
وألّدُّ إنْ عَلَكَ الهدير مُجرجراً ***** تخرَس شَقاشقُ كلّ فحل هادر
عزم له في كلَ خطب مُسْدِف ***** لألاء ذي شُطَب بِكَفِّ الشاهر
يرمي العِدى منهُ بنجم ثاقب ***** ينقضُّ من فَلَكِ البروج الدائر
وشمائل قيسيّة اُدَدِيّة ***** كالروض غِبَّ سُرى النَّشاص الماطر [٤٨]
ويَدُ تفيض لمستميح نوالهِ ***** بجمام رَجَاف الغَوارب زاخر
ذو شيمة عَبِقَتْ بريَحْان العُلى ***** كالورد في نَفَس الصديع النائر
صافي النَّدى يدنيك من أقصى المُنى ***** بسَماحة والنائل المتواتر
من كان لا يرضى بوَفْر ناقص ***** في الناس لم يظفَر بِعرْض وافر
قَرْمٌ إذا ما الحرب شُبَّ ضَرامُها ***** والموتُ ينظُر نَظْرة المُتَحاذِرِ
وتَخال أسياف الكُماة كواكباً ***** يَطْلَعْنَ منه فوق ليث خادر [٤٩]
يغتال جهد مساجليه عَنوَة ***** بفعاله والسؤدد المتواتر
قومُ حَموا خِطَطَ المكارم والعُلى ***** عن كلّ باد في الأنام وحاضر
فتداولوها آخراً عن أول ***** وتوارثوها كابرأ عن كابر
إن يجلِسوا كانوا بُدورَ أهِلَة *****أو يخطبوا كانوا شموسَ منابر
تالله أي مَدى لمجدِكَ لم يغل ***** فيه مَدى شوط العتيق الضامر
ترقى إلى قلل العُلى بمعارج ***** لك من أنابيب الوشيج الخاطر
ومُهنَّد ما مجَّه فمُ غِمْدِهِ ***** إلاّ اكتسى عَلَقَ النجيع المائر
فتعاطَها مِن كفَّ نَشْوان الشما ***** يل يستبيك بلَحْظِ طَرْف ساحر
فلقد تجلَّت قَرَة المَشْتا لنا ***** عن وجنتي وَرْد الربيع الباكر
وتبسّم النيروزُ يوقظ بالنَدى ***** نَوْرَ الرياض من النعاس الفاتر
فكأنَما ينهلُ من قطر الحيا ***** فيها صغارُ اللؤلؤ المتناثر
وكأنّما قد نُجِّدتْ أكنافُها ***** بسباسب[٥٠] من كلّ وشي فاخر
وتَمرَّحتْ وُرْقُ الحَمام وطَرَّبتْ ***** بتراق لحن العندليب الصافر
الخطوط عن الثقات :
الفرق بين القصيدتين لا يخفى على الفضلاء ولا يقاس شعر الرضي بشعر غيره من أهل العصر .
وكتبه الفضل بن إسماعيل بخطّه.
لم تزل بلاغة العراق أسوغ في الآذان ، وأحلى في النظام على تقادم الزمان من جزيرة العرب وباحتها ومتاخمتها بلاد الفصاحة والبيان، ومجاورة سكانها أهل البلاغة واللسان.
فالعراق وما والاها تقاسم [٥١] نجداً [في] [٥٢] صحَة هوائها واعتلال نسيمها ، وهنّ لها عين قسيمها. وإذا هبّت الرياح شَمالاً بسطت في نجد العراق يميناً وشِمالاً، وطابت في ليالها الأسحار، وتنفَست بنفحات المسك الرياضُ والأشجار.
وهذه الأسبابُ تفيد أهلَها صحَة في الطباع وسلامة من الأوجاع ، فتصحّ أفهامُهم ، وتعذب للسامعين كلامُهم.
وخراسان نأت عن ديار البلاغة بقعتُها، وخلت عن المتحلِّين بالفَصاحة ساحتُها ورقعتُها ، فأهلُها عُجْم لغتُهم الرَّطانة [٥٣] ، وقلّما توجد فيهم الكِيَسُ والفطانة، وفصاحتُهم تُزري بها اللُّكْنَةُ والفَدامة [٥٤] ، ويغلب عليها التكلُّفُ والإختلال ، وعلى نظم قلائد هم التهافتُ والإنحلال.
فشعر العراق أبعد شَأواً في حَلَبَةِ الشعر، وأهدى إلى الإصابة في طريق النظم والنثر، لأنّهم ارتضعوا أفاويْق [٥٥] دَرّ الفصاحة لباناً، ونطفوا بأفاظها صبياناً، فكانت لهم لَدوداً ونَشوعاً [٥٦] ، يَردُون مناقِعَها يَنْبُوعاً فَينبوعاً، حتى نشأوا وقد مَرنَتْ على الفصيح لسانهم ، وأفصحوا باللغة التي ملأت آذانهم ، وراثة عن الاُمّهات والآباء، والعصبات والأقرباء. لا كمن سمع البلاغة بعد البلوغ مُتَرَعْرعاً، واحتلبها متمحِّلاً متكلِّفاً متتبِّعاً، وليس التخلُق كالخليقة، والتلهوق [٥٧] كالسليقة، ولا ألدُّرْبَة كالكلفة.
وهيهات أن يكونَ للضباب صَوْبُ السحاب، وللغراب قاب [٥٨] العُقاب، وأن يكون من تَبَوَّأ خراسان كمن تَربَّع بالدَّهْناء [٥٩] وتَشَتّى الصمان [٦٠] وشرب أحاليب اللقاح ، وهبّت عليه صَبا نجد في الرياح ، واستظلّ في العِكاك [٦١] ، بظلّ السَّمٌرات والأراك ، واستاك بفروع البشام [٦٢] ، وظلَّل وطابَه بالتُّمام [٦٣] ، وبكى بِنَوْح الحَمام ، وخاطب الربوعَ بعد الإقواء، وساءل تقاطيع الظباء ، واحترش الضبابَ مغتدياً بالكشى والمَكْنِ [٦٤] وندب الأطلال وبكى على السكن ، ونطق بالفصيح ، وسكن منابت القَيْصُوم والشِّيح [٦٥] .
هل يستوي هو ومن تَدرَّبَ بلغة نيسابور وهراة، هيهات أن يكون ذلك هيهات. هذا هو القول عموماً في شعر الفريقين ، عند الإتحاد باللسان العربي، ولغة إسماعيل النبي.
فأمّا خصوصاً في الفحلين: فإن فتى الأزد منصوراً ، وإن أصبحت الآذان إلى كلامه صَوْراً [٦٦] ، استحلاء لنظامه ، وتعجَباً من بُعد غَوْره في الفصاحة ومرامه ، وبلغ من درجات الشعر مناط العَيّوق والنسر، وأبدع في صنعته كلّ الإبداع ، حتى أروى بماء كلامه الرقراق ظمأ الأسماع ، ولم يُبق في قوس البلاغة منزعاً ، متحقِّقاً فيها لا متشبِّعاً، تضاهي قلائدُه أوْشحَة المجرَّة والجوزاء ، يكاد يَخْبُو لديها دَراري السماء ، يقرطس [٦٧] سِهامَ البلاغة أهدافُها ، ويقشر عن لآلىء البحر من أصدافها ، ويمتري مستوعباً أخلافَها ، متربّعاً في أوساطها ، جامعاً أطرافَها.
فإنّ الشريف الرضيّ أعذبُ كلاماً ، وأحلى نظاماً ، وأندى بمحاسن الشعر غماماً، وأتمّ فيها تُماماً. بحرلا تكدره الدلاء، ونطق يقصر عنه لو نطق الجوزاء ، وقصائد تبهى بمزاينها جبين الأيام، ويتوضّح بضيائها سُدْفُ الظلام، وشواردهنّ بُعدهنّ قريبة من الأفهام، إذا حصلت على البياض بين المداد وألسنة الأقلام ، يخوض بها لجج البلاغة أتمّ الخوض ، ويَفتنُّ في أنواعها تفنّن الصفراء والحمراء من قطع الروض. فما من باب شَرَع فيه إلاّ عَلَكَ الفصاحة بأشدّ لِحى، حتى كأنّه ألهم الصواب بأسدّ وَحي ، وما من بحر ركب سفينه ، إلاّ غاص على دُرِّه وانتزع دفينَه.
وإن من ولدته هاشم وانتسب إلى مضر الحمراء لعريقٌ في الفصاحة رأس في الصحاء ، إذا عضِد بما عُضِد به الرضي من سَلاسة ألفاظ ، وبُعد مرمى في المعاني والأغراض.
وليس يستحيي مفضولٌ فَضَله الشريفُ وإن كان أميرَ المنطق، بليغَ المشرق ، فلا إزراء بالقمر وإن بَهَرته الشمسُ ، وللعرب الفَصاحةُ مسلَّمةٌ ليست تُنكِرُ ذلك الفُرْسُ.
وهذا حكم يحكم به حكّامُ الفضل، ويسجّل به اُولوا التمييز والعقل.
ومن تأمّل الكلمتين لم يَطُل به الزمانُ حتى ينقادَ لحكمي وإن كان أبيّاً، ويحطب في حبلي وإن كان بايناً [٦٨] . ولولا خوف الملال لوازنتُ بين كل بيتين من الكلمتين، حتى يتبيَّنَ الصبحُ لذي عينين.
كتبه علي بن أحمد الواحدي
تأملتُ هاتين القصيدتين فألفَيتُ كلَّ واحدة منهما كالروض الزاهر، غبَّ السحاب الماطر، وكالدُّرِّ المنظوم، والوَشْي المرقوم . إلاّ أنّ التفاوت بين شعريهما كالتفاوت بين أبويهما.
وكتبه أبو نصر صاعد بن الحسين الزوزني بخطّه.
تأملتُ هاتين القصيدتين فوجدتُهما أرقَّ من دمع المستهام، ومن الراح رُقرق بماء الغَمام، ومعانيهما أحسن من دُرِّ الطَّلِّ في أعين الدهر، إذا تفتّحت عيون الرياض غبّ المطر. إلاّ أنّ شعر الرضيّ أرضى، وأقرب إلى الرضا.
وكتبه زكريّا بين الحسن بن زكريّا الزوزني.
الفاضلُ الفاصل بين القَرْمين، حقُه أن يكون عادلاً مجادلاً عن سَنَن المين، واجتَلَيْتُ الجريدتين فألفَيْتُهما من العُرُب الأتراب، مُعربتين في الإنتساب عن أنساب الأعراب، كلتا تحكي بغرَتها ومقلهّا الغزالة والغزال ، وتروي برقّتها وعذوبتها الخمرَ والزلالَ.
لا يتمكّن من ترجيح إحداهما على الاُخرى ، إلاّ من صَعِد في معرفة رسوم الشعر إلى الدرجة الكبرى ، فَسِرُّ الشعر عندي أبعد مَنالاً من سُرَّة الشِّعْرى، ومن خال أنّه أكسى من البصل فهو أعرى من المِغْزَل ، ونحن بعدُ في العَنُوق ولم نبلغ فيه إلى النُوق ، والقَرْمان جاوزا دون العَيُّوق . فالإمساك عن الترجيح بمثلي أحقّ ، وشريا من هو من الضبّ أعقّ. ولولا اقتراح هذا الفاضل المحتوي على أجناس الفضل، المتشبّث بأفنان فنون الأدب لَما أثبتُ هذا الفصل.
وكاتبه إسماعيل بن الحسن الأديب.
الحمد لله ، والصلاة على رسوله محمّد وآله أجمعين.
منقول من مجلة تراثنا السنة ١٤٠٩ هـ (العدد الخاص)