وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                

Search form

إرسال الی صدیق
جورج جرداق ونهج البلاغة

إن كتاب «نهج البلاغة» جمعه الشريف الرضي محمد بن الحسين المتوفى ٤٠٦ هـ ، وأودع فيه ما اختاره من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد اتم جمعه في رجب سنة ٤٠٠ للهجرة، كما نص هوعلى ذلك في آخر الكتاب.

وقد وهم جرجي زيدان – فنسب جمع النهج للشريف المرتضى علي بن الحسين ، وربما تابع فيه بغير تثبت – بروكلمان الذي قال: «والصحيح أنه من جمع الشريف المرتضى».

ولو رجع بروكلمان وجرجي زيدان ومن شايعهما إلى كتابي الشريف الرضي : حقائق التأويل والمجازات النبوية – وهما مطبوعان ومعروفان ؛ لوقفا على تكرار الإشارة من الرضي إلى كونه هو الجامع لكتاب النهج.

وحظي هذا الكتاب من الأهمية والشأن بما لم يحظ به كتاب غيره على مر العصور ، وأصبح له من الشروح ما بلغ (٧٥) شرحاً في حساب بعض المؤلفين ، و(١٠١) من الشروح في حساب مؤلف آخر.

وقد حاول بعض الناس أن يثير شكوكاً في صحة نسبة الكتاب إلى الإمام ، والحقيقة أن هذه الشكوك لا تستحق المناقشة ، والشريف الرضي أرفع من أن تلحقه التخرصات ، وأميرالمؤمنين أعظم من أن يخترع له محبوه منقبة ينحلونه إياها.

وقد كان غاية ما أمكن أن يقولوه هو أن جامع «النهج» لم يذكر أسانيده فيما روى ، وقد انبرى لرد ذلك في عصرنا الشيخ عبد الله نعمة في كتاب سماه : «مصادر نهج البلاغة» ، كذلك فعل السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب في كتاب سمّاه : «نهج البلاغة وأسانيده».

وفيما يلي كلمة عن «النهج»، وبلاغة علي عليه السلام وأقواله ، بقلم : جورج جرداق.

قال جورج جرداق :

من تتبع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقي منهم أوغربي ، ولا قديم ومحدث ، أدرك ظاهرة لا تخفى وهي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة والضعف.

هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب عليه السلام فإذا هو الإمام في الأدب ، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علم وهدى ، وآيته في ذلك «نهج البلاغة» الذي يقوم في أسس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أسس، وتتصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرناً فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر.

أما البيان فقد وصل على سابقه بلاحقه ، فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المتحد بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القوي اتحاداً لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية، ومن سحر البيان النبوي، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه : إنه «دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق».

ولا عجب في ذلك، فقد تهيأت لعلي جميع الوسائل التي تعهد لهذا المكان بين أهل البلاغة . فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد الله، وتلقى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة، أضف إلى ذلك استعدادته الهائلة العظيمة ، فإذا بأسباب التفوق تجتمع لديه من الفطرة ومن البيئة جيمعاً!.

أما الذكاء، الذكاء المفرط فتلقى له في كل عبارة من «نهج البلاغة» عملاً عظيماً. وهو ذكاء حي ، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هوعمل في موضوع أحاط به بعداً فما يفلت منه جانب ولا يظلم منه كثير أو قليل، وغاص عليه عمقاً، وقلبه تقليباً، وعرّكه عركاً، وأدرك منه أخفى الأسباب وأمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتبة على تلك الأسباب : ما قرب منها أشد القرب ، وما بعد أقصى البعد.

ومن شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنى اتجهت. وهذا التماسك بين الفكرة والفكرة، حتى تكون كل منهما نتيجة طبيعية لما قبلها ، وعلة لما بعدها. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه، وهو لا تساع مداه، لا يستخدم لفظاً إلا وفي هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل وتتمعن في التأمل ، ولا عبارة إلا وتفتح أمام النظر آفاقاً وراءها آفاق.

فعن أي رحب وسيع من مسالك التأمل والنظر يكشف لك قوله : «الناس أعداء ما جهلوا»، أو قوله : «قيمة كل امرئ ما يحسنه». أو«الفجور دار حصن ذليل!». وأي إيجاز معجز هو هذا الإيجاز: «من تخفف لحق». وأي جليل من المعنى في العبارات الأربع وما تحويه من ألفاظ قلائل فصلت تفصيلاً ، بل قل : أنزلت تنزيلا!.

ثم عن أي حدة في الذكاء واستيعاب للموضوع وعمق في الإدراك ، يشف هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد وصفة نفسه وحقيقة حاله: «ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد : نفس دائم وقلب هائم وحزن لازم. مغتاظ على من لا ذنب له ، بخيل بما لا يملك!».

ويستمر تولد الأفكار في «نهج البلاغة» من الأفكار ، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي. وهي مع ذلك لا تتراكم ، بل تتساوق ويترتب بعضها على بعض. ولا فرق في ذلك بين ما يكتبه علي عليه السلام وما يلقيه ارتجالاً. فالينبوع هوالينبوع ولا حساب في جريه لليل أو نهار.

ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم. وإنك لتدهش ، أمام هذا المقدار من الأحكام والضبط العظيمين، حين تعلم أن علياً لم يكن ليعد خطبه ولو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.

فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت ولا إجهاد كالبرق إذ يلمع ولا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه. وكالصاعقة إذ  تزمجر ولا تهيء نفسها لصعق أو زمجرة ، وكالريح إذ تهب فتلوي وتميل وتكسح وتنصب على غاية، ثم إلى مداورها تعود، ولا يدفعها إلى أن تروح وتجيء إلا قانون الحادثة ومنطق المناسبة في حدودها القائمة لا قبل ولا بعد!

ومن مظاهر الذكاء الضابط القوي في «نهج البلاغة»، تلك الحدود التي كان علي عليه السلام يضبط بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه وتعصب. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه في محيط من الأحزان والكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء ومضاء، فإذا هو آمر مطاع.

ومن ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك؛ أنه نوع البحث الوصف ، فأحكم في كل موضوع، ولم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبيرعن أحوال الدنيا، وشؤون الناس، وطبائع الأفراد والجماعات. وهو يصف البرق والرعد  والأرض والسماء، ويسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية ، فيصف خفايا الخلق في الخفاش والنملة والطاووس والجرادة وما إليها. ويضع للمجتمع دساتير وللأخلاق قوانين . ويبدع في التحدث عن خلق الكون وروائع الوجود. وإنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم والمنطق المحكم، في مثل هذا الأسلوب النادر.

أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفاق الجوانح في كل أفق. وبفضل هذا الخيال القوي الذي حرم منه كثير من حكماء العصور ومفكري الأمم، كان علي عليه السلام يأخذ من ذكائه وتجاربه المعاني الموضوعية الخالصة ، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته الوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقلياً جافاً، لا يمر في مخيلة علي إلا وتنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود وتمده بالحركة والحياة.

فخيال علي نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع بهذا الواقع ويبرزه ويجيله ، ويجعل له امتدادات من معدنه وطبيعته ، ويصبغه بألوان من مادته ولونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحاً، وإذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه !

وقد تميز علي بقوة ملاحظة نادرة ، ثم بذاكرة واعية تخزن وتتسع . وقد مر من أطوار حياته بعواطف جرها عليه حقد الحاقدين ومكر الماكرين، ومر منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين وإخلاص المخلصين. فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذي خياله المبدع. فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال وتتساوق في لوحات رائعة حية، شديدة الروعة والحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتد لها فروع وأغصان ، ذات أورق وأثمار.

ومن ثم يمكنك، إذا أنت شئت ، أن تحول عناصر الخيال القوي في نهج البلاغة إلى رسوم مخطوطة باللون ، لشدة واقعيتها واتساع مجالها وامتداد أجنحتها وبروز خطوطها . ألا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة وكان بنفسه ألم منهم بعد موقعة «الجمل»، قائلاً: «لتغرق بلدتكم حتى كأنني أنظر إلى مسجدها كجؤجو طير في لجة بحر» [١].أو في مثل هذا التشبيه الساحر: «فتن كقطع الليل المظلم».

أو هذه الصورة المتحركة :

«وإنما أنا كقطب الرحى : تدور علي وأنا بمكاني!».

أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة ، وتبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور: «ويل لسكككم العامرة وللدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة !».

ومن مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل، والتمثيل في أدب الإمام وجه اسطع بالحياة. وإن شئت مثلاً على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس ، ويتمنون ما هو فيه من حال، ولكنه أعلم بموضعه من الخوف والحذر فهو إن أخاف بمركوبه إلا أنه يخشى أن يغتاله .

ثم انظر بعد ذلك إلى علي كيف يمثل هذا المعنى يقول:

«صاحب السلطان كراكب الأسد يغبط بموقعه ، وهو أعلم بموضعه».

وإن شئت مثلاً آخر فاستمع إليه يمثل حالة رجل رآه يسعى على عدوله بما فيه إضرار بنفسه ، فيقول: «إنما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه !» والردف: هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب: «إياك ومصادقة الكذاب فإنه كالسراب : يقرب عليك البعيد ويبعد عنك القريب!».

أما النظرية الفنية القائلة : بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلاً في الفن، فهي إن صحت؛ فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا. فما أهول الموت وما أبشع وجهه .

وما أروع كلام ابن أبي طالب فيه وما أجمل وقعه. فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيباً كثيراً، ومن الخيال الخصيب نصيباً أوفر؛ فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلا لوحات عباقرة الفنون في أوروبا.

فبعد أن يذكر علي عليه السلام الإحياء بالموت، ويقيم العلاقة بينهم وبينه. يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قائم ونغم حزين : «فكأن كل امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته ، فيا له من بيت وحدة ومنزل وحشة، ومفرد غربة!». ثم يهزهم بما هم مسرعون إليه ولا يدرون ، بعبارات متقطعة متلاحقة؛ وكأن فيها دوي طبول تنذر تقول : «ما أسرع الساعات في اليوم وأسرع الأيام الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر!» بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، وتشعلها العاطفة، ويجسم الخيال الوثاب عناصرها، ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة ، وهي بين عيون تدمع وأصوات تنوح وجوارح تئن ، قائلاً: «وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم». ثم يعود فيطلق لعاطفته وخياله هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحي :

«ولكنهم سقوا كأساً بدلتهم بالنطق خرساً، وبالسمع صمماً، وبالحركات سكونا . فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات [٢] ! جيران لا يتآنسون، وأحباء لا ينزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، وانقطعت منهم أسباب الإخاء، فكلهم وحيد وهم جميع،وبجانب الهجر وهم أخلاء، لا يتعارفون لليل صباحاً ، ولا لنهار مساء. أي الجديدين [٣] ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً [٤] ».

ثم يقول هذا القول الرهيب : «لا يعرفون من أتاهم ، ولا يحفلون من بكاهم، ولا يجيبون من دعاهم!».

فهل رأيت إلى هذا الإبداع في تصوير هول الموت ووحشة القبر وصفة سكانه في قوله :

«جيران لا يتآنسون وأحباء لا يتزاورون!»؟ ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية علي : «أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا!»؟ ومثل هذه الروائع في «النهج» كثير.

هذا الذكاء الخارق، وهذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة ، مع العاطفة الهادرة التي تمدها بوهج الحياة. فإذا الفكرة تتحرك وتجري في عروقها الدماء سخية حارة. وإذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لا نطلاقها من عقل تمده العاطفة بالدفء. وقد  يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في ميادين الأدب وسائر الفنون الرفيعة ، إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعالة في إنتاج هذا الأثر، ذلك أن المركب الإنساني لا يرضيه ، طبيعياً، إلا ما كان نتاجاً لهذا المركب كله. وهذا الأثر الأدبي الكامل هو ما نراه في نهج البلاغة. وإنك لتحس نفسك مندفعاً في تيار جارف من حرارة العاطفة وأنت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.

أفلا يشيع في قلبك الحنان والعطف شيوعاُ وأنت تصغي إلى علي عليه السلام يقول : «لو أحبني جبل لتهافت» أو«فقد الأحبة غربة!» أو«اللهم إني استعديك على قريش، فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي» وقالوا : «ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً أو مت متأسفاً! فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد إلا أهل بيتي!».

وإليك كلاماً له عند وفاة السيدة فاطمة، يخاطب به ابن عمه الرسول :

«السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك! قلّ ، يا رسول الله، عن صفيتك صبري ، ورق عنها تجلدي، إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزّ!» ومنه «أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهّد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم!».

ثم إليك هذا الخبر :

روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال:

«خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام، وهو قائم على حجرة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، وعليه مدرعة من صوف وحمائل سيفه ليف وفي رجليه نعلان من ليف ، فقال عليه السلام، في جملة ما قال:

«ألا أنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً وأقبل منها ما كان مدبراً. وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى! ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم وهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص، ويشربون الرنق؟! قد ، والله ، لقوا الله فوفاهم أجورهم وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم ! أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذوالشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية؟ ».

قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء!.

وأخبر ضرار بن ضمرة الضبائي قال: فأشهد لقد رأيته – يقصد الإمام – في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ ويبكي بكاء الحزين، ويقول : «يا دنيا، يا دنيا، إليك عني! أبي تعرضت أم إلَّي تشوقت ؟ لا حان حينك ، هيهات ! غرّي غيري ، لا حاجة لي فيك: قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها! فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير! آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد!».

هذه العاطفة الحارة التي عرفها الإمام في حياته ، تواكبه أنّى اتجه في نهج البلاغة|، وحيث سار. تواكبه في ما يحمل على الغضب والسخط ، كما تواكبه في ما يثير العطف والرضا.

حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مسائدة الحق فيما يناصرالآخرون الباطل ويحيطونه بالسلاح وبالأرواح تألم وشكا، ووبّخ وأنّب، وكان شديداً قاصفاً، مزجراً، كالرعد في ليالي الويل! ويكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة اهواؤهم ، كلامكم يوهي الصم الصلاب إلخ...»، لتدرك أية عاطفة متوجعة ثائرة هي تلك التي تمد هذه الخطبة بنبض الحياة وجيشانها!.

وإنه لمن المعيب أن نسوق الأمثلة على تدفق العاطفة الحية التي تبث الدفء في مآثر الإمام. فهي في أعماله ، وفي خطبه وأقواله، مقياس من المقاييس الأسس. وما عليك إلا أن تفتح هذا الكتاب، كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب، ذات القوة الدافقة والعمق العميق! الأسلوب والعبقرية الخطابية.

أما من حيث الأسلوب، فعلي بن أبي طالب ساحر الأداء. والأدب لا يكون إلا بأسلوب ، فالمبنى ملازم فيه للمعنى، والصورة لا تقل في شيء عن المادة. وأي فن كانت شروط الإخراج فيه أقل شأناً من شروط المادة!.

وإن قسط علي بن أبي طالب من الذوق الفني، أو الحس الجمالي ، لما  يندر وجوده. وذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الأدبي عنده . أما طبعه هذا فهو طبع ذوي الموهبة والأصالة الذين يرون فيشعرون ويدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم وتنكشف عنه مداركهم انطلاقاً عفوياً. لذلك تميز أدب علي بالصدق كما تميزت به حياته. وما الصدق إلا ميزة الفن الأولى ومقياس الأسلوب الذي لا يخادع.

وإن شروط البلاغة ، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعلي بن أبي طالب. فإنشاؤه مثل أعلى لهذه البلاغة ، بعد القرآن . فهو موجز على وضوح ، قوي جياش ، تام الانسجام لما بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف ،حلو الرنة في الأذن موسيقي الوقع. وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدة ويشتد ويعنف في غيرها من المواقف، لا سيما ساعة يكون القول في المنافقين والمراوغين وطلاب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة. فأسلوب علي صريح كقلبه وذهنه ، صادق كطويته، فلا عجب أن يكون نهجاً للبلاغة.

وقد بلغ أسلوب علي من الصدق حداً ترفع به حتى السجع عن الصنعة والتكلف. فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجعة ، أبعد ما يكوون عن الصنعة ، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر.

فانظر إلى هذا الكلام المسجع وإلى مقدار ما فيه من سلامة الطبع: «يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف الحيتان في البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات!» .

أو إلى هذا القول من إحدى خطبه : وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء، فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجر هذه البحار، وكثرة الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات إلخ...» وأوصيك خيراً بهذ السجع الجاري مع الطبع: «ثم زينها بزينة الكواكب وضياء الثواقب [٥] وأجرى فيها سراجاً مستطيراً [٦] وقمراً منيراً في فلك دائر ، وسقف سائر إلخ...» فإنك لو حاولت إبدال لفظ مسجوع في هذه البدائع جميعاً، بآخر غير مسجوع ، لعرفت كيف يخبو أشراقها ، ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقته وهما الدليل والمقياس . فالسجع في هذه الأقوال العلوية ضرورة فنية يقتضيها الطبع الذي  يمتزج بالصناعة امتزاجاً حتى لكأنهما من معدن واحد يبعث النثر شعراً له أوزان وأنغام ترفق المعنى بصور لفظية من جوها ومن طبيعتها.

ومن سجع الإمام آيات ترد النغم على النغم رداً جميلاً، وتذيب الوقع في الوقع على قرارات لا أوزن منها على السمع ولا أحب ترجيعاً. ومثال ذلك ما ذكرناه من سجعاته منذ حين، ثم هذه الكلمات الشهيات على الأذن والذوق جميعاً: «إنه يوم جديد ، وأنا عليك شهيد، فاعمل فيّ خيراً ، وقل خيراً!».

وإذا قلنا أن أسلوب علي تتوفر فيه صراحة المعنى وبلاغة  الأداء وسلامة الذوق، فإنما نشير إلى القارئ بالرجوع  إلى روائع نهج البلاغة ليرى كيف تتفجر كلمات علي من ينابيع بعيدة القرار في مادتها وبأية حلة فنية رائعة الجمال تمور وتجري وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: «المرء مخبوء تحت لسانه». وفي قوله: «الحلم عشيرة» أو في قوله: «من لان عوده كثفت أغصانه» أو في قوله: «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع» أو في قوله أيضاً : «لو أحبني جبل لتهافت». أو في هذه الأقوال الرائعة: «العلم يحرسك وأنت تحرس المال. رب مفتون بحسن القول فيه. إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه. ليكن أمر الناس عندك في الحق سواء . افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئاً فإن صغيره كبير وقليله كثير. هلك خزان المال وهم أحياء . ما متّع غني إلا بما جاع فقير!».

ثم استمع إلى هذا التعبير البالغ قمة الجمال الفني أراد به أن يصف تمكنه من التصرف بمدينة الكوفة كيف شاء ، قال: «ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها..».

فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحق بصورة مطلقة ولا تفوته إلا إذافاتته الشخصية الأدبية ذاتها.

ويبلغ أسلوب علي عليه السلام قمة الجمال في المواقف الخطابية ،أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجياشة ، ويتقد خياله فتعتلج فيه صور حارة من أحداث الحياة التي تمرس بها. فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه وتتدفق على لسانه تدفق البحار.

ويتميز أسلوبه ، في مثل هذه المواقف . بالتكرار بغية التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات وباختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين ، وقد تتعاقب فيه ضرورة التعبير من أخبار إلى استفهام تعجب إلى استنكار. وتكون مواطن المواقف فيه قوية شافية للنفس. وفي ذلك ما فيه من معنى البلاغة وروح الفن. وإليك مثلاً على هذا خطبة الجهاد المشهورة ، وقد خطب علي بها الناس لما أغار سفيان بن عوف الغامدي على مدينة الأنبار بالعراق وقتل عامله عليها:

«هذا أخوغامد قد بلغت خيله الأنبار وقتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها وقتل منكم رجالاً صالحين».

«وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والأخرى المعاهدة ، فينزع حجلها وقلبها ، ورعاثها، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءاً  مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ، ما كان به ملوماً ، بل كان به عندي جديراً.

«فيا عجباً! والله يميت القلب ويجلب الهم اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم. فقبحاً لكم حين صرتم غرضاً يرمى : يغارعليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون!».

فانظر إلى مقدرة الإمام في هذه الكلمات الموجزة ، فإنه تدرج في إثارة شعور سامعيه حتى وصل بهم  إلى ما يصبوإليه. وسلك إلى ذلك طريقاً تتوفر فيه بلاغة الأداء وقوة التأثير. فإنه أخبر قومه بغزو سفيان بن عوف الأنبار، وفي ذلك ما فيه من عار يلحق بهم. ثم أخبرهم بأن هذا المعتدي إنما قتل عامل أمير المؤمنين في جملة ما قتل، وبأن هذا المعتدي لم يكتف بذلك بل أغمد سيفه في نحور كثيرة من رجالهم واهليهم.

وفي الفقرة الثانية من الخطبة توجه الإمام إلى مكان الحمية من السامعين، إلى مثار العزيمة والنخوة من نفس كل عربي، وهو شرف المرأة. وعلي يعلم أن العرب من لا يبذل نفسه إلا للحفاظ على سمعة امرأة وعلى شرف فتاة، فإذا هو يعنّف هؤلاء القوم على القعود  دون نصرة المرأة التي استباح الغزاة حماها ثم انصرفوا آمنين، ما نالت رجلاً منهم طعنة ولا أريق لهم دم.

ثم إنه أبدى ما في نفسه من دهش وحيرة من أمر غريبب: «فإن أعداءه يتمسكون بالباطل فيناصرونه ويدينون بالشر فيغزون الأنبار في سبيله، فيما يقعد أنصاره حتى عن مناصرة الحق فيخذلونه ويفشلون عنه».

ومن الطبيعي أن يغضب الإمام في مثل هذا الموقف، فإذا بعبارته تحمل كل ما في نفسه من هذا الغضب فتأتي حارة شديدة مسجعة مقطعة ناقمة: فقبحاً لكم حين صرتم غرضاً يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون. ويعصى الله وترضون!».

وقد تثور عاطفته وتتقطع فإذا بعضها يزحم بعضاً على مثل هذه الكلمات المتقطعة المتلاحقة: «ما ضعفت، ولا جبنت، ولا خنت، ولا وهنت!». وقد تصطلي هذه العاطفة بألم ثائر يأتيه من قوم أراد لهم الخير وما أرادوه لأنفسهم لغفلة في مداركهم ووهن في عزائمهم ، فيخطبهم بهذا القول الثائر الغاضب، قائلاً: «ما لي أراكم أيقاظاً نوّماً، وشهوداً غيباً، وسامعة صماء، وناطقة بكماء... إلخ».

والخطباء العرب كثيرون ، والخطابة من الأشكال الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولا سيما في عصر النبي والخلفاء الراشدين لما كان لهم بها من حاجة.

أما خطيب العهد النبوي الأكبر فالنبي لا خلاف في ذلك. أما في العهد الراشدي، وفي ما تلاه من العصور العربية قاطبة، فإن أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في هذا النحو. فالنطق السهل لذي علي عليه السلام كان من عناصر شخيصته وكذلك البيان القوي بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً ثم إن الله يسر له العدة الكاملة لما تقتضيه الخطابة  من مقومات أخرى على ما مر بنا.

فقد ميزه الله بالفطرة السليمة ، والذوق الرفيع، والبلاغة الآسرة، ثم بذخيرة من العلم انفرد بها عن أقرانه، وبحجة قائمة ، وقوة إقناع دامغة ، وعبقرية في الارتجال نادرة. أضف إلى ذلك صدقه الذي لا حدود له وهو ضرورة في كل خطبة ناجحة وتجاربه الكثيرة المرة التي كشفت لعقله الجبارعن طبائع الناس وأخلاقهم وصفات المجتمع ومحركاته. ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية.ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية.

إنه من الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كل هذه الشروط  التي  تجعل من صاحبها خطيباً فذاً، غير علي بن أبي طالب ونفر من الخلق قليل وما عليك إلا استعراض هذه الشروط ، ثم استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي والغربي، لكي تدرك أن قولنا هذا صحيح لا غلو فيه.

وابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش شديد الثقة بنفسه وبعدل القول. ثم إنه قوي الفراسة سريع الادراك يقف على دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخر جنانه بعواطف الحرية والإنسانية والفضيلة، حتى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه أدرك القوم بما يحرك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الخامدة.

أما إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفه إلا بأنه أساس في البلاغة العربية.

يقول أبوالهلال العسكري صاحب «الصناعتين» : ليس الشأن في إيراد المعاني – وحدها – وإنما هو في جودة اللفظ ، أيضاً وصفائه، وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف.

من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجر ذيول الأرجوان أنفة وتيهاً. ومنها ما هو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح. ومنها ما هو كالسيف ذي الحدين.  ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يلقى على بعض العواصف ليستر من حدتها ويخفف من شدتها. ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء! من الكلام ما يفعل كالمقرعة ، ومنه ما يجري كالنبع الصافي.

كل ذلك ينطبق على خطب علي في مفرداتها وتعابيرها.

هذا بالإضافة إلى الخطبة تحسن إذا انطبعت بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين، فكيف بها إذا كانت، كخطب ابن أبي طالب ، تجمع روعة هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى وقوته وجلاله!.

وإليك شيئاً مما قلناه في الجزء الثالث من كتابنا «الإمام علي صوت العدالة الإنسانية» بصدد بيان الإمام لا سيما ما كان منه في خطبه :

نهج البلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتصل بالذوف الفني الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر، مترابط بآياته متساوق ، متفجر بالحس المشبوب والإدراك البعيد، متدفق بلوعة الواقع ، متآلف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى ليندمج التعبير بالمدلول، أو الشكل بالمعنى ، اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء ، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموّج والريح إذ تطوف. أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بد له أن يكون بالضرورة على ما هو كائن عليه من الوحدة لا تفرق بين عناصرها إلا لتمحو وجودها وتجعلها إلى غير كون!.

بيان لو نطق بالتقريع لا نقض على لسان العاصفة انقضاضاً! ولو هدد الفساد والمفسدين لتفجر براكين لها أضواء وأصوات! ولو انبسط في منطق لخاطب العقول والمشاعر فأقفل كل باب على كل حجة غير ما ينبسط فيه! ولو دعا إلى تأمل لرافق فيك منشأ الحس وأصل التفكير فساقك إلى ما يريده سوقاً، ووصلك بالكون وصلاً، ووحّد فيك القوى للاكتشاف توحيداً. وهو لو راعاك لأدركت حنان الأب ومنطق الأبوة وصدق الوفاء الإنساني وحرارة المحبة التي تبدأ ولا تنتهي أما إذا تحدث إليك عن بهاء الوجود وجمالات الخلق وكمالات الكون ، فإنما يكتب على قلبك عداد من نجوم السماء!.

بيان هو بلاغة من البلاغة ، وتنزيل من التنزيل . بيان اتصل بأسباب البيان العربي ما كان منه وما يكون ، حتى قال أحدهم في صاحبه أن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق!.

وخطب علي جميعاً تنضح بدلائل الشخصية حتى لكأن معانيها وتعابيرها هي خوالج نفسه بالذات واحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت نفخ الشمال فإذا هو يرتجل الخطبة حسّاً دافقاً وشعوراً زاخراً وإخراجاً بالغاً غاية الجمال.

وكذلك كانت كلمات علي بن أبي طالب المرتجلة ، فهي أقوى ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون حيث الصدق، وعمق الفكرة ، وفنية التعبير، حتى أنها ما نطقت بها شفتاه ذهبت مثلاً سائراً.

فمن روائعه المرتجلة قوله لرجل أفرط في اتهامه بنفسه : «أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك».

ومن ذلك أنه لما اعتزم أن يقوم وحده لمهمة جليلة تردد فيها أنصاره وتخاذلوا ، جاء هؤلاء وقالوا له وهم يشيرون إلى أعدائه : يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم. فقال من فوره: «ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفونني غيركم؟ إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، فإنني اليوم لأشكو حيف رعيتي، كأنني المقود وهم القادة».

ولما قتل أصحاب معاوية محمداً بن أبي بكر فبلغه خبر مقتله قال: «إن حزننا عليه قدر سرورهم به. إلا أنهم نقصوا بغيضاً ونقصنا حبيباً».

وسئل: أيهما أفضل العدل أم الجود؟ فقال: «العدل يضع الأمور مواضعها، والجود  يخرجها من جهتها ، والعدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما».

وقال في صفة المؤمن ، مرتجلاً:

«المؤمن بشره في وجهه ، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً وأذل شيء نفساً يكره الرفعة ، ويشنأ السمعة ، طويل غمه، بعيد همه، كثير صمته، مشغول وقته شكور صبور، سهل الخليقة، لين العريكة!».

وسأله جاهل متعنت عن معضلة ، فأجابه على الفور: «اسأل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإن العالم المتعسف شبيه بالجاهل المتعنت!».

والخلاصة أن علي بن أبي طالب عليه السلام أديب عظيم نشأ على التمرس بالحياة وعلى المرانة بأساليب البلاغة فإذا هو مالك ما يقتضيه الفن من أصالة في شخصية الأديب، من ثقافة خاصة تنمو بها الشخصية وتتركز الأصالة.

أما اللغة ، لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها مرشلوس، في المجلد الأول من كتاب «رحلة إلى الشرق» هذا القول الذكي : «اللغة العربية هي الأغنى والأفصح والأكثر والألطف وقعاً بين سائر لغات الأرض. بتراكيب أفعالها تتبع طيران الفكر وتصوره بدقة، وبأنغام مقاطعها الصوتية تقلد صراخ الحيوانات ورقرقة المياه الهاربة وعجيج الرياح وقصف الرعد» ، أما هذه اللغة بما ذكر مرشلوس من صفاتها وبما يذكر، فإنك واجد أصولها وفروعها وجمال ألوانها وسحر بيانها ، في أدب الإمام علي عليه السلام!.

وكان أدباً في خدمة الإنسان والحضارة!

------------------------------------------------------------

[١] . الجؤجؤ: الصدر.

[٢] . ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمل ، فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعى من السبات ، أي النوم.

[٣] . الجديدان : الليل والنهار.

[٤] . سرمد : أبدي.

[٥] . الثواقب: المنيرة المشرقة.

[٦] . سراجاً مستطيراً: ويريد به الشمس.

منقول (بتصرف) من كتاب دائرة المعارف الإسلامية الشيعية المجلد : ١

****************************