وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
أبو إسحاق الصابي والشريف الرضي (علاقة إنسانيّة وأدبيّة رائعة)

صلاح جبار عوفي

تقديم :

قبل أكثر من ألف ومئة وخمسين عام ، غادرت أسرتان صابئيتان موطنهما ( حرّان ) وحلّتا في بغداد. وقد إشتهرتا بما أنجبتا من الأبناء ، ممن برعوا بالطب والفلك والتأريخ والأدب والعلوم الأخرى .

والعائلة الأولى ، هي ( أسرة ثابت بن قرّة ) ، الطبيب الذي تُوفى ببغداد عام ٢٨٨ هـ الموافق ٩٠١ م .

والثانية ( أسرة إبراهيم بن زهرون ) ، الطبيب الذي توفى ببغداد أيضاً في ٣٠٩ هـ الموافق ٩٢١ م .

ولمّا كانت الأسرتان تجمعهما عقيدة واحدة وأصل واحد ، فقد تمَّت بينهما مصاهراتٍ ولأجيالٍ متعاقبة ، وتكونت من فروعهم شجرة عُرفت بـ ( آل الصابي ) ، التي أصبح لها موقع مرموق في الدولة العباسية .

ويحدثنا إبن القفطي :( أنَّ ثابت بن قرّة الصابئي الحراني، هو الذي أدخل رئاسة الصابئة إلى أرض العراق ، فثبتت أحوالهم وعلت مراتبهم وبرعوا في مختلف الآداب والعلوم ... )

وفي مقالنا هذا ، سنتناول جانباً من حياة واحدٍ من أعلام ( آل الصابي ) ..

وهذا الرجل هو : ( إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حيّون الصابي ) والملقب بــ ( أبو إسحاق الصابي ) .

وُلد أبو إسحاق ، ببغداد في ٣١٣ هـ الموافق ٩٢٥ م ، وتوفى فيها عام ٣٨٤ هـ الموافق ٩٩٤ م ..

كان أبوه وجدّهُ من أشهر أطباء زمانهم ..

وقد نُكب بوفاة ولدَيه ( سنان وصاعد ) ، ولم يتبقَ له غير ولده ( المُحسن ) ، فكان كأبيه ، أديباً وشاعراً ..

وقد تولى ديوان الرسائل في الدولة العباسية سنة ٣٤٩ هـ ، وهو في سن السادسة والثلاثين ، بعد أن تخطى جميع كتّاب الحضرة ، وتفوق عليهم ..

وقد شمل نشاطه ، في التأليف ، ميادين متعددة في المعرفة ، فمنها ما وصل إلينا كرسائله المعروفة ، ومراسلاته مع الشريف الرضي ، وكتاب التاجي في أخبار بني بويه ، ورسالته إلى أبي سهل الكوهي ..

إضافة إلى عدد من الكتب والرسائل والمصنفات التي فُقدت ، ويبدو أنها كثيرة ،وتشمل نواحي مختلفة من المعرفة .

أما في العلوم ، فكان لإبي إسحاق، باعٌ طويل في علم الفلك ، حتى أنه حضَّر مرصدين فلكيين مهمين في بغداد في أواخر عمره ، وقد صنع بعض الادوات الخاصة بهذا العلم كالاسطرلاب والزيج ، وله يد طولى في علوم الرياضيات والفلسفة والتأريخ والطب والزراعة ، كما أشار إلى ذلك إبنُ النديم والتوحيدي وإبنُ العبري .

علاقته مع نقيب الطالبيين الشريف الرضي :

كان أبو إسحاق ، بحكم منصبه في الدولة كــ ( رئيس لديوان الرسائل ) ، وبحكم ثقافته الأدبية الراقية ، على صلاتٍ وديّةٍ مع عدد من الشخصيات الأدبية المعروفة التي عاصرها. وكان مما ساعد على نمو هذه الصلات ودوامها ، عذوبة نفسه ودماثة خلقه ، هذه الصلات التي إمتد تأثيرُها إلى ما بعد وفاته ، كعلاقته بالشريف الرضي والصاحب بن عبّــاد وغيرهما.

وتعد علاقته بالشريف الرضي وصداقته له قمة تلك العلاقات ؛ لما إتسمت به من طابعِ الإخلاص والود ، ولما خلَّفته من الثمار الأدبيّـة الرائعة ، فكانت بحق ، علاقة إنسانية وأدبية رائعة .

أسباب العلاقة :

لا بدَّ من أسبابٍ وراء متانة هذه العلاقة ، جعلتها ترتقي إلى هذا المستوى ، وأهمهـــا : أنَّ أبا إسحاق ، كان على علاقة وثيقة بوالد الشريف الرضي .. فلما نشأ الشريف وأدرك الامور ، أحسَّ بحب ومودّة تجاه الرجل الذي رعى مصالح أبيه بحماسة وإخلاص ..

وثانياً ، جمعت بين الرجلين كراهية شديدة لعضد الدولة البُويهي ، الذي إعتقلَ والد الشريف الرضي ، مما ترك أثراً سيئاً في نفس الشريف وهو لم يبلغ العاشرة من عمره ..

أمّا الروحُ الأدبيّة المشتركة ، فكانت من بين أهم الاسباب التي جمعت بينهما ، فقد نظر الشريف الرضي منذ صباه بعين الاعجاب والتقدير إلى أدب الصابيء في شعره ونثره ..

ومن جانبه فقد أُعجب أبو إسحاق بتلك الشهرة التي لدى الشريف .

وعن مكانة تلك العلاقة ، قال الشريف الرضي :

لقد تمـــازج قلبانـــا كأنهمــــا ***** تراضعا بدم الأحشاء لا اللبــــــنِ

أنت الكَرى مؤنساً طرفي وبعضُهم ***** مثل القذى مانعاً عيني من الوسنِ

كما تبيَّن الصابي ، بدقيق ملاحظته ، من طموح شديد لدى الشريف في أن يتبوأ أعلى مراكز في الدولة ، وهي الخلافة ، فأخذ يُحفزه على أن يتبوأ ذلك المكان ..

وقد أرسل له ، مرَّة ، أبياتاً تتضمن هذا المعنى ، قال فيها :

أبا حسنٍ لي في الرجالِ فراسة ***** تعودتُ منها أن تقول فتصدقا

وقد خبَّرتني عنك أنكَ ماجـــــدٌ ***** سترقى من العليا أبعد مرتقى

طبيعة العلاقة :

رُبَّ سائل يسأل ، كيف أمكن لصداقة قوية متينة ، أن تقوم بين رجُلين تفصل بينهما الظروف بأكثر من حائل وعائق ..

فكان أول تلك العوائق ، فارقْ السن بينهما ..

فالصابي قد تخطّى الستين بثلاث سنوات ، في الوقت الذي دلف الشريف إلى السابعة عشر من عمره ..

ومع هذا الفارق ، فإنَّ الصابي رأى في الشريف ، رجلاً إكتملت فيه جميعُ خصائص الرجولة ، إذ تاقت نفسُه إلى منصب الخلافة منذ صباه ، كما كتب شعرا جيداً وهو لم يتخطَ العاشرة من عمره ، ومنهُ قصيدة مطلعها :

المجد يعلم أنَّ المجدَ من أدبي ***** ولو تماديت في غيِّ وفي لعبِ

وحين أحسَّ الشريف ، بما يعتملُ في قلب صاحبه وصفيِّه ( الصابي ) ، فوجدناه يقول له ما يطمئنه بصادق إخلاصه وعميق شعوره :

ولو أنَّ لي يوماً على الدهر إمرة *****ً وكان لي العدوى على الحدَثـــانِ

خلعتُ على عطفيك بُرد شبيبتــي ***** جَواداً بعمري وإقتبال زمانــــي

وحمَّلتُ ثقل الشيب عنك مفارقي ***** وإن فلّ من غربي وغضّ عناني

أما العائق الثاني ، فهو الفارق الاجتماعي والطبقي بين كلا الرجلين ، فالشريف ، ينتمي إلى أعرق البيوتات العلوية آنذاك ، إضافة إلى كونه نقيبـاً للطالبيين في الدولة العباسية ..

بينما أبو إسحاق الصابيء ، كان رجلاً صابئياً ، لا تربطه بهذه البيوتات غير إيمانه الصادق بالله ، إضافة إلى صلاته الأدبية والإنسانية ودماثة خُلقه . وكان لأصالة عرق الشريف وإنسانيته وروحه الأدبية العالية ، أثراً كبيراً في أن لا يُصبحَ هذا الفارق عائقاً بوجه تلك العلاقة الرائعة ، وقد أفصح الشريف عن ذلك ، بإحدى قصائده ، ومنها البيت التالي :

إلا تكن من أُسرتي وعشائري ***** فلأنتَ أعلقهم يداً بودادي

وفي العلاقة هذه ، شيء لآخر ، تناوله شعرهما ، وهو بُعدُ داريهما في بغداد ، فالشريف يسكنُ الكرخ ، والصابي يسكنُ الرصافة ، والمسافة وإن كانت لا تتعدى بضعة أميال ، إلا إنها كانت تحتاجُ مجهوداً كبيرا لقطعها .. وقد صرَّح كلاهما بذلك في قصائدهما ..

فقال ابو إسحاق :

فإن تنأَ عنك الدارُ فالذكر ما نأى ***** وإن بان منّي الشخص فالشوق لم يَبِنْ

وفي جوابِ الشريف على تلك القصيدة :

أشتاقكم فدواعي الشوقِ تُنهضني ***** إليكمُ وعوادي الدهر تُقعدنــــــــي

وأعرضُ الودَّ أحياناً فيؤنسنــــي ***** وأذكرُ البُعدَ أطواراً فيوحشنــــــي

هذا ودجلــة ما بينــي وبينكــــــم ***** وجانب العبرِ غيرُ الجانب الخشنِ

النتاج الأدبي :

وفيما يخص النتاج الأدبي ، الذي خلفته هذه العلاقة ، فقد جُمع كلُه في كتاب أُطلق عليه ( رسائل الصابي والشريف الرضي ) ..

والرسائل هذه قطع من الأدب الراقي المشحون بالعواطف الانسانية الرائعة ، بلغ بهما الصابيء والشريف ، القمَّة في شعرهما ونثرهما .

في باب النثر بينهما :

وفي رسالةٍ ، كتبها الشريف إلى أبي إسحاق ، يُعزّيه بوفاة ولده ( سنان ) .. قال فيها :

(( ... لويت عناني ، في عشيّةِ أمسنا ، عن حضرة سيدي الشيخ ، أطال الله بقاءه وأدام عزّه وتأييده وسعادته وسلامته ونعمته ، وأنا المساهم له في تحمِّل النازلة ، والأخذ معه بأوفر الأقسام من النائبة ...... )) .

وقد أجابه ابو إسحاق الصابي برسالة ، كشف فيها عن طول باعه في هذا الميدان ، فقال :

(( ... وصلت الرقعة ، أطال الله بقاء سيدي الشريف الجليل ، وأدام عزَّه وتأييده ، ونعمته وكفايته ، وحراسته ووقايته ، بالتفضل الذي زادَ وأوفى ، والقول الذي نفع وشفى ، والتعزية التي غمرني إحسانها ، وبهرني إستحسانها ، فصادفت منّي قلباً عليلا ، وخاطراً كليلا ، ونفساً قد أثخنتها الرزية وولتها المصيبة ، وأحالتها المحنة عما كانت عليه من جلدٍ وقوةٍ وتماسك ومعرفةٍ .....) .

أما في باب الشعر :

فقصائد الشريف ، في رثاء خليله وصفيِّه أبي إسحاق ، فهنَ ثلاث :

الأولى ( الدالية ) المعروفة ، ومنها الأبيات المتفرقة التالية :

أعلمتَ من حملــوا على الأعــــواد؟ ***** أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟

جبلٌ هوى لو خرَّ في البحر اغتدى ***** من وقعــــهِ متتابــع الأزبــــاد

ما كنتُ أعلم قبل حطَّكَ في الثـرى ***** أنَّ الثرى يعلــو على الأطـواد

ما مطعم الدنيــــا بحلــــو بعــــــده ***** أبـــداً وما مــــاء الحياة يبـادي

فقد كنت أهوى أن أُشاطرك الردى ***** لكن أراد الله غير مُـــــرادي

ثكلتــــك أرض لم تلـــد لك ثانيــــاً ***** أني ومثلك مُعوزُ الميــــــلاد

لك في الحشــــا قبـــرٌ وإن لم تأوه ***** ومن الدموع روائحٌ وغوادي

والثانية ( اليائية ) ، ويبدو قالها الشريف ، بعد مدة من وفاة صاحبه ، وقد مرَّ بقبره :

أيعلــــمُ قبــــرٌ بالجنينةِ أنـنــا ***** أقمنا به ننعى النَـدى والمعاليــــــا

نزلنا إليهِ عن ظهور جيادنا ***** نكفكفُ  بالأيدي الدموع الجواريا

أما ( القافيَّة ) ، فقد إرتجلها الشريف ، عندما مرَّ بقبر صاحبه ، سنة ٣٩٣ هـ ، الموافق ١٠٠٣ م أي بعد تسعِ سنوات من وفاة صديقه ، فقال :

لولا يذمُّ الركبُ عندكَ موقفي ***** حيَّيتُ قبركَ يا أبا إسحاقِ

كيف إشتياقُكَ مُذ نأيت إلى ***** أخٍ قلق الضمير إليكَ بالأشواقِ

أما قصائد أبي إسحاق ، في صاحبه الشريف الرضي :

فمنها ( النونيّة ) ، التي أرسلها للشريف ، يشكو فيها كبر سنِّهِ وعجزه عن الحركة ، ويصف له المحفَّة التي يُحمَلُ عليها ، وقد كتبها أبو إسحق قبل أن يتوفى بأشهر قليلة :

إذا ما تعدَّت بي وسارت محفَّـــة ***** لها أرجل يسعى بها رَجُلانِ

وما كنتُ من فرسانـِـها غير أنها ***** وفت لي لما خانت القدمـــانِ

فقد حمِلتْ مني أبنَ سبعين سالكاً ***** سبيلاً عليها يسلكُ الثقـــــلانِ

وللصابي ، أُخرى لا تقلُّ متانةً وعذوبة وصدق عاطفة ، وهي آخر شعره في الشريف ، كتبها له قبيل وفاته ــ أي وفاة الصابيء ــ بإثني عشر يوماً ، ومطلعها :

أبا كلِّ شيءٍ قيل في وصفهِ حسنْ  ***** كذلك ينحو مَن كنّاك أبا الحسنْ

وفي قصيدة ، وضع فيها أبو إسحاق ، قواعد وشروطاً للصداقة وحفظِّ سر الصديق ، وقد أرسلها ، لصديقه الشريف الرضي :

لسرِّ صديقي مكمنٌ في جوانحي ***** تمنـــع أن يدنــــو إليــه المباحــثُ

تغلغل منّي حيث لا تستطيعــــهُ  ***** كؤوسِ الندامى والأنيسُ المُحادثُ

إذا الفحصُ آلى حالفاً أن ينالـــهُ  ***** تراجـــعَ عنهُ وهو خزيانُ حانــثُ

المصادر :

١- أبو إسحاق الصابي ، حياته وأدبه ــ مهدي صالح محمد البدري

٢- غرر البلاغة لهلال بن المحسن الصابي ــ د . أسعد ذيبان

٣- شرح شواهد التلخيص المسمى معاهد التنصيص ــ عبد الرحيم العباسي

٤- مجلة آفاق مندائية / العدد ١٧ سنة ٢٠٠١ : حيث نُشر الموضوع أعلاه

****************************