الشيخ أحمد سلمان
الشبهة الخامسة : المشتركات :
ذكرابن تيمية مطعناً آخر في ( نهج البلاغة) ، وهو أن الكلام المنسوب في الكتاب لأميرالمؤمنين قد نُسب لغيره أيضاً ، وهذا يعني أن الشريف الرضي رضى الله عنه أخذ من كلمات فصحاء العرب ونسبها لأميرالمؤمنين عليه السلام لإثبات فصاحته وبلاغته .
ولهذا قال في منهاج السنة : وأيضاً فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره ، لكن صاحب ( نهج البلاغة) وأمثاله أخذوا كثيراً من كلام الناس فجعلوه من كلام علي ، ومنه ما يُحكى عن علي أنه تكلم به ، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره ، ولهذا يوجد في كلام ( البيان والتبيين) للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول من غيرعلي ، وصاحب ( نهج البلاغة) يجعله عن علي [١] .
والجواب على هذا الإشكال يكون في نقاط :
أولاً : لم يبيَّن ابن تيمية مقدار تلك الأحاديث والروايات المشتركة بين أميرالمؤمنين عليه السلم وبين غيره من الناس ، بل إن ابن تيمية لم يأت بمثال واحد على تلك الخطب المشتركة ، ووجود جملة من الأحاديث التي نشك في صحة نسبتها لقائلها لا يعني الحكم على الكتاب كله بالوضع أو بالكذب ، غاية ما في الأمر أن هذه الخطب بخصوصها ينبغي التأكد من أنها لعلي عليه السلام أو لغيره .
علماً أن الصفدي نقل عن ابن تيمية كلاماً آخر، حيث قال : سمعت الشيخ الإمام العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى يقول : ليس كذلك ، بل الذي فيه من كلام علي بن أبي طالب معروف ، والذي فيه للشريف الرضي معروف [٢] .
وهنا يحق لنا أن نتساءل : إذا كانت الكلمات الثابتة لأميرالمؤمنين عليه السلام في كتاب (نهج البلاغة) معروفة ويسهل تمييزها عن غيرها ، فلماذا لم يتحفنا المخالفون بكتاب ( صحيح نهج البلاغة) كما فعل الشيخ محمد ناصر الألباني مع السنن الأربعة ؟
لماذا لا نسمع من القوم إلا عبارات الطعن والتجريح في هذا السفر الجليل ، ولم نسمع يوماً رجلاً منهم يحتج بفقرة من فقراته أو يذكر كلمة من كلماته أو خطبة من خطبه إلا كانت ذكر تلك الخطبة بغرض الاحتجاج بها على الشيعة ؟
ثانياً : الأمرالمهم الذي يجب أن يلاحظ في استدلال ابن تيمية الحرّاني هو أنه ذكرأن الكلام الذي نسبه الشريف الرضي قدس سره لأميرالمؤمنين عليه السلام قد نُسب لغيره من الناس ، وهذا ما يدل على كذب الرضي !
والسؤال الذي يطرح بقوة : لماذا جزم ابن تيمية أن الرضي قدس سره هو الذي سرق كلام الغير ونسبه لأميرالمؤمنين عليه السلام ؟
ما هو الدليل الذي يمنع الاحتمال الثاني : وهو أن يكون ذلك الغير قد سرق كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام ونسبها لغيره ؟
ألا يدل هذا على وجود ضغينة في قلب ابن تيمية الحرّاني على أميرالمؤمنين عليه السلام ، تجعله يحاول سلب كل منقبة ومفخرة له ؟
هذا الكلام ليس على سبيل الاحتمال ، بل هو حقيقة اعترف بها جملة من علماء المخالفين .
منهم : ابن حجرالعسقلاني ، حيث قال : طالعت الرد المذكور( يعني منهاج السنة) فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء ، لكن وجدته كثيرالتحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات ، لكته ردَّ في ردَّه كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها ؛ لأنه كان لا تساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره والإنسان عامد للنسيان ، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدَّته آحیاناٌ إلى تنقيص علي رضي الله عنه [٣] .
وقال في الدررالكامنة : ومنهم من ينسبه ( يعني بن تيمية) إلى النفاق ؛ لقوله في علي ما تقدَّم ، ولقوله : إنه كان مخذولاً حيث ما توجه ، وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها ، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ، ولقوله : إنه كان يحب الرياسة ، وأن عثمان كان يحب المال ، ولقوله : أبوبكرأسلم شيخاً يدري ما يقول ، وعليٌّ أسلم صبياً ، والصبي لا يصح إسلامه على قول ، وبكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل ، ومات ما نسبها من الثناء على ...
وقصة أبي العاص ابن الربيع ، وما يؤخذ من مفهومها ، فإنه شنَّع في ذلك ، فألزموه بالنفاق ؛ لقوله صلى الله عليه وآله (( لا یبغضك إلا منافق )) [٤] .
علماً أن ابن تيمية احتج في دعواه السابقة بما نقله الجاحظ ، وهذا الأخير قد عرُف بالزندقة والنصب لأميرالمؤمنين عليه السلام ، فلا ندري كيف جعله ابن تيمية حكماً في مثل هذه القصة ؟
قال فيه الذهبي : عمرو بن بحرالجاحظ ، صاحب التصانيف ، روى عنه أبوبكر بن أبي داوود فيما قيل ، قال ثعلب : ليس بثقة ولا مأمون ، قلت : وكان من أئمة البدع [٥] .
فهل يحتج ابن تيمية بإمام من أئمة البدع كما عبَّرالذهبي لينصر بدعته ويوافق هواه ؟
ثالثاً : نحن نجزم ونقطع أن ما ذكره الجاحظ ونسبه لغيرأميرالمؤمنين عليه السلام هو سرقة أدبية لغرر كلمات الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ودرر خطبه ، ونستدل على ذلك بأمرين :
الأمرالأول : أن الجاحظ الذي احتج به ابن تيمية قد عُرف بأنه يكثرمن رواية أكاذيب غيره ، وينسب للثقات ما لم يقولوه ، ولذلك قال ابن حجرالعسقلاني في لسان الميزان : وقال ابن حزم في (الملل والنحل) : كان أحد المجان الضلال ، غلب عليه الهزل ، ومع ذلك فإنا ما رأينا له كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها ، وإن كان كثيرالإيراد لكذب غيره .
وقال أبو منصورالأزهري في مقدمة تهذيب اللغة : وممن تكلّم في اللغات بما حصره لسانه وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم : الجاحظ ، وكان أوتي بسطة في القول ، وبياناً عذباً في الخطاب ، ومجالاً في الفنون ، غير أن أهل العلم ذبّوه ، وعن الصدق دفعوه . وقال ثعلب : كان كذَّاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس [٦] .
وعليه ، فلا يمكن الاحتجاج بما نقله الجاحظ بأي حال من الأحوال بعدما تبيَّن رأي العامة فيه .
الأمرالثاني : اعترف جملة من علماء المخالفين بأن هناك من امتهن سرقة خطب أميرالمؤمنين عليه السلام ، ونسبها لنفسه ؛ كي يظهر بصورة الخطيب المفوّه الذي لا يُشقّ له غبارعلى المنابر.
من ذلك ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه على (نهج البلاغة) ، حيث قال : أما الفصاحة : فهو عليه السلام إمام الفصحاء ، وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل :((دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين )) ، ومنه تعلَّم الناس الخطابة والكتابة ، قال عبدالحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ، ففاضت ثم فاضت.
وقال ابن نباته : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب [٧] .
ولكن قد يقول قائل : إن هذا الكلام لا دلالة فيه على السرقة الأدبية التي أدّعيتها ؛ لأن هؤلاء اعترفوا بأنهم استفادوا من خطب أميرالمؤمنين عليه السلام لتعلُّم الفصاحة والبلاغة .
وردّنا على هذا أن هذا النّص يفهم بضميمة شاهد آخر، وهو ما ذكره ابن الجوزي في تاريخه حيث قال في ترجمة ابن نباتة : كان يتكلم على الناس قاعداً وربما قام علي قدميه في دارسيف الدولة من الجامع ، وكان يقال : إنه كان يحفظ كتاب ( نهج البلاغة) ، ويغيَّرألفاظه ، وكانت له كلمات حسان في الجملة . توفي في يوم الجمعة حادي عشررجب هذه السنة ، وصلي عليه وقت صلاة الجمعة [٨] .
والنص واضح جلي لا يحتاج إلى شرط ولا إلى بيان ، فإن ابن نباتة كان يحفظ خطب أميرالمؤمنين عليه السلام ، ويغيَّرها ، ثم ينسبها لنفسه ؛ لكي يثبت قدميه في ميدان أهل البلاغة والفصاحة .
والدليل الأقوى على صحّة ما ذهبنا إليه هو محاولة التغطية على هذه الجريمة التي ارتكبها ابن نباتة في حق تراث أميرالمؤمنين عليه السلام ، وذلك بتحريف الكلم عن موضعه !
فعندما تعرَّض ابن كثيرفي (البداية والنهاية) لترجمة محمد الفارقي أبي عبد الله الواعظ ، قال : أبوعبدالله الواعظ ، يقال : إنه كان يحفظ ( نهج البلاغة) ويعبرألفاظه ، وكان فصيحاً بليغاً ، يُكتب كلامه ويروى عنه كتاب يعرف بالحكم الفارقية [٩] .
أراد ابن كثيرالدمشقي تغطية جريمة الفارقي المتمثلة في سرقة وتحريف كلام أميرالمؤمنين عليه السلام ، فحرّف النص من عبارة : (( كان يحفظ نهج البلاغة ،ويغيَّرألفاظه)) ، إلى عبارة : (( كان يحفظ نهج البلاغة ويعبَّرألفاظه )) ، أي يشرح ويُفسَّر فقرات النهج !
ومن هنا عرض ابن أبي الحديد المعتزلي نماذجا من السرقات الأدبية التي اقترفها الفارقي في شرحه على النهج :
قال في معرض تعليقه على خطبة للفارقي : هذا آخرخطبة ابن نباتة ، فانظر إليها وإلى خطبته عليه السلام بعين الانصاف ، تجدها بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل ، أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد وانظر ما عليها من أثرالتوليد وشين التكلف وفجاجة كثير من الألفاظ ، ألا ترى إلى فجاجة قوله : " كأنّ أسماعكم تمج ودائع الوعظ وكأن قلوبكم بها استكبارعن الحفظ "!
وكذلك ليس يخفى نزول قوله : " تندون من عدوكم نديد الإبل ، وتدرعون له مدارع العجز والفشل " .
وفيها كثيرمن هذا الجنس ، إذا تأمله الخبيرعرفه ، ومع هذا فهي مسروقة من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام ، ألا ترى أن قوله عليه السلام : " أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة " ، قد سرقه ابن نباتة ، فقال : فإن الجهاد أثبت قواعد الايمان ، وأوسع أبواب الرضوان ، وأرفع درجات الجنان "!
وقوله عليه السلام : " من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم "، سرقه أيضا ، فقال : " صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه ، وندبكم الرحمن إلى آخره سرقه أيضا ، فقال : " كم تسمعون الذكر فلا تعون ، وتقرعون بالزجر فلا تقلعون "!
وقوله عليه السلام :" حتى شنّت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان : سرقه أيضا ، وقال : " وعدوكم في دياركم عمله ، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله "، وأما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب لأميرالمؤمنين عليه السلام أخر، سيأتي ذكرها [١٠] .
فهذا غيض من فيض ، وإلا فجل الحكم المتداولة والتي تُنسب لفلان وفلان هي بالأساس حكم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، لكن جارعليها الزمان ، وانتحلها ضعيفو الإيمان .
فالشبهة التي طرحها ابن تيمية لا ترقى إلى مستوى الإشكال المستلزم للتشكيك في ( نهج البلاغة) ، بل هو إشكال منا على الطرف المقابل .
الشبهة السادسة : علم الغيب :
تعرَّض بعض النقّاد إلى إشكال آخر حول (نهج البلاغة) ، وهو أن بعض فقرات هذا الكتاب احتوت على إخبار بأحداث مستقبلية ، مما يوحي بأن المتكلم يرى أنه يعلم الغيب ، إذ أنه يورد هذه الأحداث على سبيل الجزم والقطع ، لا على سبيل الاحتمال والظن ، وهذا الشيء لا يمكن أن يصدر من أميرالمؤمنين عليه السلام ؛ لأن علم الغيب لا يكون إلا لله عزّوجلّ .
وممن طرح هذه الشبهة عباس محمود العقاد في عبقرياته ، حيث قال : ومن المحقَّق الذي لا خلجة فيه من الشك أن النبوءات التي جاءت في (نهج البلاغة) عن الحجاج بن يوسف ، وفتنة الزنج ، وغارات التتار، وما إليها ، هي من مدخول الكلام عليه ، ومما أضافه النساخ إلى الكتاب بعد وقوع الحوادث بزمن قصير أو طويل [١١] .
وذكرأيضاً هذا الإشكال محمد محي الدين عبدالحميد في مقدمته لشرح محمد عبده لكتاب ( نهج البلاغة )، وبعض النقّاد المتأخرين .
وهذا الإشكال مبنى على مقدمة فاسدة ، وهي أن علم الغيب من مختصات الله عزَّوجل ، ولا يمكن لأحد من الناس أن يطلّع على الغيب ، وهذا باطل بالضرورة ؛ لأن الآیات القرآنیة والأحاديث النبوية تشهد بإمكانية تشهد ذلك ، بل بوقوعه في بعض الناس من أنبياء وغيرهم .
الأدلة القرآنية :
منها : قوله تعالى :(عَالِمُ الغَيبِ فَلَا يُظهِرُعَلَى غَيبِهِ أحَداً * إلَّاَ مَنِ أرتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإنَّهُ يَسلُكُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ رَصَدا) ( الجن : ٢٦ ، ٢٧ ) .
والآیة صريحة في أن الله يطلع على غيبه بعض من ارتضى من عباده .
ومنها : قوله تعالى : ( وَأُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبَرصَ وَأُحي المَوتَى بإذنِ اللهِ وَأنَبّئُكُم بِماَ تأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فيِ بُيُوتِكُم إنَّ في ذَلِكَ لَأَيَةُ لَّكُم إن كُنتُم مُّؤمِنِين) )آل عمران : ٤٩ ) .
وهنا عیسى بن مريم عليه السلام يصرَّح أن من آیاته ؛إخباره ما یدّخرالناس في بيوتهم ، وهذا من علم الغيب بلا شك .
ومنها قوله تعالى : (أَمَّا الَسَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَاكِين يَعمَلُونَ فِي الَبَحرِ فَأَرَدتُّ أَن أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غصبًا (*) وَأمَّا الغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤِمنَينِ فَخَشِينَآ آًن یُرهِقَهُمَا طُغياناً وَكُفراً(*) فَأَردنَآ أَن يُبدِلَهُمَا رَبُهُمَا خَيراً مِنهُ زَكوةً وَأَقرَبَ رُحما (*) وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَينِ يَتيمَينِ في المَدِينَة ِ وَكَان تَحتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فأرَادَ رَبَّكّ أَن يَبلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيستَخرِجَا كَنزَهُمَا رَحمَةً مِن رَّبِكَ وَمَا فَعلتُهُ عَن أَمرِي ذلِكَ تَأوِيلُ مَا لّم تَسطِع عَلَيهِ صَبراً) (الكهف: ٧٩ ،٨٢ ) .
فمجموع هذه الآیات تثبت أن جملة من عباد الله قد أطلعهم الله تعالى على غيبه ، وكشف لهم عن المستقبل ؛ ليكون ذلك آیة على صدقهم وعلامة صلاحهم .
ولكن قد يقول قائل : إن هذه الآیات معارضة بآیات أخر تحصرعلم الغيب بالله جلَّ جلاله ، وتنفي حصول غيره عليه ، مثل قوله تعالى : ( قُل لَّا يَعلَمُ مَن فيِ السَمَوات والأَرضِ الغَيبَ إلَّا اللَّهُ) (النمل : ٦٥ ) ، وقوله عزَّ من قائل : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيبِ لَا يَعلَمُهَآ إلَّا هُوَ)(الأنعام :٥٩) ، فيكف يكون الجمع بينها ؟
الجواب على هذه الطائفة من الآیات أن تحمل على العلم الذاتي الاستقلالي ، وليس العلم الحصولي المفاض من الباري عزَّوجل .
وبيانه أن الإنسان مهما بلغ في الكمال لا يستطيع أن يطلّع على الغيب بنفسه بحيث يستغني عن الله عزَّوجل في ذلك ، بل لا يكون العلم الإ بإضافة منه سبحانه وإكرام لعباده .
فالذي يعلم الغيب بذاته هوالله سبحانه وحده دون غيره ، فإنه لا يحتاج لمعرفة الغيب إلى أحد ، وأما غيره سبحانه فلا يعلم الغيب إلا بإفاضة من الله تعالى وبتعليم له .
وهذا هو المعنى غيرالاستقلالي الذي يثبته الشيعة لأئمتهم ؛ وليس المعنى الأول الذي يلزم منه كفرالقائل به .
ولهذا قال الشيخ المفيد قدس سره : فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو منكربين الفساد ؛ لأن الوصف بذلك إنما يستحقه مَنْ عَلِمَ الأشياء بنفسه ، لا بعلم مستفاد ، وهذا لا يكون إلا الله عزَّوجل [١٢] .
وهذا المعنى قد أشارإليه أميرالمؤمنين عليه السلام في الخطبة المذكورة في ( نهج البلاغة) حيث قال : فقال له بعض أصحابه : لقد أُعطيتَ يا أميرالمؤمنين علم الغيب ! فضحك عليه السلام ، وقال للرجل وكان كلبيًّا : يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب ، وإنما تَعَلُّم من ذي علم [١٣] .
ولم يختص الشيعة بهذا التفسير، بل وافقهم عليه جملة من مفسَّري أهل السنة والجماعة عند تعرّضهم للطائفة الثانية من الآيات :
منهم : المناوي الذي قال : وأما قوله : ( لَا يَعلَمُهَآ إَلا هُوَ) فمفسَّربأنه لا يعلمها أحد بذاته ومن ذاته إلا هو، لكن قد تعلم بإعلام الله ، فإن ثمة من يعلمها ، وقد وجدنا ذلك لغير واحد ، كما رأينا جماعة علموا متى يموتون ، وعلموا ما في الأرحام حال حمل المرأة بل وقبله [١٤] .
ومنهم : ابن كثيرفي تفسيره، فإنه قال : هذه مقاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها ، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبِي مرسل ولا ملك مقرب ، ( لَا يُجَلِّيهَا لِوقتِهآ إَلّا هُوَ) ، وكذلك إنزال الغيث ، لا يعلمه إلا الله ، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكَّلون بذلك ومن شاء الله من خلقه ، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه ، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى ، أو شقيًّا أو سعيداً علم الملائكة الموكَّلون بذلك ومن شاء الله من خلقه [١٥] .
وكذلك قال غيرهما من علماء أهل السنة ، سواء من المفسرين أو من شراح الحديث الذين حملوا هذه الآیات القرآنیة على ذلك .
الأدلة الروائية :
نصَّت جملة من الروايات الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وجملة من الصحابة كانوا يعلمون الغيب ، ويخبرون به غيرهم .
منها : ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حذيفة أنه قال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بما هو کائن إلى أن تقوم الساعة ، فما منه شيء إلا قد سألته ، إلا أني لم أساله ما يخرج أهل المدينة من المدينة [١٦] .
وهذا الحديث يثبت أن النبي كان يعلم ما سيكون إلى يوم القيامة ، بل أخبرحذيفة بن اليمان بذلك حتى عُرِف بأنه صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وآله .
ومنها : ما رواه البخاري في صحیحه بسنده عن أبي هريرة ، قال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قُطِعَ هذا البلعوم [١٧] .
وقد ذكر شرّاح الحديث بأنّ الوعاء الثاني احتوى على الملاحم والفتن التي ستحصل ، وبالخصوص حُكّام الجور.
قال ابن حجر في فتح الباري : وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكنّي عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : (( أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان )) يشيرإلى خلافة يزيد بن معاوية ؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة [١٨] .
إذن فأبوهريرة يعلم بعض الغيب الذي سيحصل في المستقبل أيضاً من فتن وملاحم وحُكّام بتعليم من النبي المصطفى صلى الله عليه وآله .
ومنها : ما رواه مسلم بسنده عن أبي زيد يعني عمرو بن أخطب ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى ، ثم صعد المنبرفخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى ، ثم صعد المنبرفخطبنا حتى غربت الشمس ، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن ، فأعلمُنا أحفظنا [١٩] .
وهذه الرواية نصّ صريح في أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قد اطّلع على الغيب ، وأطلع جل الصحابة عليه ، فلماذا لا يُقبل من أميرالمؤمنين عليه السلام أن يخبر بما أطلعه عليه أخوه وابن عمه المصطفى صلى الله عليه وآله ، ويُقبل من غيره ؟
هذا ما يسمونه سياسة الكيل بمكيالين في هذه الأيام ، إذا أخبرأحد الصحابة بمغيبات فإنها تعد من كراماته وفضائله وأما إذا أخبرأميرالمؤمنين عليه السلام بشيء من ذلك ، فإن هذا الشيء يصبح مدعاة لتسقيط الخبر وتكذيبه !
ومما يناسب المقام ما وراه ابن كثيربسنده عن طارق بن شهاب ، قال : كنا نتحدّث أن عمر بن الخطاب ينطق على لسان مَلَك ، وقد ذكرنا في سيرة عمر بن الخطاب أشياء كثيرة ،ومن مكاشفاته وماكان يخبر به من المغيَّبات ، كقصة سارية بن زنيم ، وما شاكلها ، ولله الحمد والمنة [٢٠] .
انظرأخي القارئ إلى عمر بن الخطاب، فإنه يجوز له أن يخبر بالمغيبات والمكاشفات، وتعد هذه الإخبارات من جملة كراماته،لا لشيء إلا لأنه عمر،ولأن الراوي هو ابن كثير،أما الشريف الرضي قدس سره فلا يجوز له نقل كرامة واحدة من هذا القبيل لجدّه أميرالمؤمنين عليه السلام .
ولو كان هذا الناقد مطللعاً على بطون الكتب ودفائن الأسفار لعلم أن بعض المنصفين من علماء العامة قد نقلوا جملة من إخبارات أميرالمؤمنين عليه السلام بالغيب ، ونقله بعض حوادث المستقبل .
فقد قال ابن حجر في صواعقه ، وأخرج عبدالرزاق عن حجرالمرادي ، قال :قال لي علي : كيف بك إذا أمرت أن تلعنني ؟ قلت : أو كائن ذلك ؟ قال : نعم . قلت : فكيف أصنع ؟ قال العنّي ، ولا تبرأ مني . قال : فأمرني محمد بن يوسف أخو الحجاج وكان إن الأمير أمرني أن ألعن عليًّا فلعنوه ، لعنه الله . فما فطن لها إلا رجل ، أي لأنه إنما لعن الأمير ولم يلعن عليًّا ، فهذا من كرامات علي وإخباره بالغيب [٢١] .
وروى عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح عن أبي الطفيل ، قال: شهدت عليَّا وهو يخطب ، وهو يقول : سلوني ، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدَّثتكم به [٢٢] .
وغيرها من الأمورالكثيرة التي شهد بها الخاصة والعامة ، مثل إخباره بمقتله ، ومقتل ابنه الحسين عليه السلام وإخباره أنه سيقاتل الخوارج قبل بلوغهم النهر، وأنه لا يبقى منهم عشرة ، والكثيرالكثير.
فلا ندري لم يطعن في النهج لشيء معروف ومشهور في كتب المسلمين ، ولا يطعن في الشريف الرضي قدس سره لشيء شاركه فيه البخاري ومسلم وغالب أئمة الحديث ؟
العجيب في صاحب هذا الإشكال أنه لم يتفحّص (نهج البلاغة) جيّداً قبل أن يطرح هذه الشبهة ؛ وذلك لأن من جملة الأمور الغيبية الموجودة في النهج غزو التتار، وهذه الحادثة وقعت بعد وفاة الرضي قدس سره بأكثر من مائتي سنة ؟
فقد روى عن أميرالمؤمنين عليه السلام في النهج أنه قال : كأني أراهم قوماً كأن وجوهم المجان المطرقة ، يلبسون السرق والديباج ، ويعتقبون الخيل العتاق ، ويكون هناك استحرار قتل ، حتى يمشي المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقل من المأسور [٢٣] .
وعلق ابن الحديد على هذه الخطبة بقوله : واعلم أن هذه الغيب الذي أخبرعليه السلام عنه قد رأيناه نحن عياناً ، ووقع في زماننا ، وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام ، حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا ، وهم التتارالذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام ، وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق ، وببلاد ما وراء النهر، وبخراسان وما والاها من بلاد العجم ، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله ، فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته وأن طالت مدّته نحوعشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو أذربيجان ، وهؤلاء دوَّخوا المشرق كله ، وتعدّت نكايتهم إلى بلاد إرمينية وإلى الشام ، ووردت خيلهم إلى العراق ، وبخت نصرالذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس ، وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل ، وأي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد والأمصارالتي أخرجها هؤلاء ، وإلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين وغيرهم [٢٤] .
فإن كان ما ورد في النهج من قبيل ذكرالحجاج وانقضاء ملك بني أمية وفتنة الزنج وبعض ملاحم البصرة من الأمورالتي يمكن أن ينحلها الرضي قدس سره لأميرالمؤمنين عليه السلام ، فكيف يمكنه ذكرغزو التتار والحال أنه مات قبل هذه الواقعة بحوالي ١٥٠ عاماً ؟
من هنا نعلم أن صاحب هذا الإشكال لا عقل له ؛ لأنه هرب من الالتزام بأن علي بن أبي طالب عليه السلام مطلع على الغيب ، فوقع في لازم أكثر بطلاناً وهو أن الشريف الرضي قدس سره كان أيضاً عالماً بالغيب ، وهذا ما لا يقوله الشيعة وأهل السنة جميعاً.