وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
طعونات في نهج البلاغة – الثاني

الشيخ أحمد سلمان

وممن منع من التحديث بالسنة أبوبكربن أبي قحافة : فإنه قد فرض حضراً على التحديث بسُنّة النبي صلى الله عليه وآله ، ولعل هذا القرار كان من أول القرارات التي اتخذها أبوبكربعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله :

فقد روى الذهبي : عن ابن أبي مليكة أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم ، فقال : إنكم تحدَّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافاً ، فلا تحدَّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله ، وحرَّموا حرامه [١] .

وهذا الأثر واضح صريح في أن الخليفة الأول نهى عن التحديث نهياً صريحاً لا يقبل التأويل والتبديل ، حيث قال : (( فلا تحدَّثوا عن رسول الله شيئاً))، وأمرهم بالرجوع إلى كتاب الله ، وحصر التشريع فيه بقوله : (( فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فستحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه )) .

وما فعله أبوبكر قد حذَّر منه النبي صلى الله عليه وآله في حياته ، ونبَّه أمَّته عليه ، فقد روى الحاكم [٢] والدارمي [٣] وابن ماجة [٤] وابن داوود [٥] وأحمد واللفظ له بعدة طرق عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : ألا إني أوتيت الكتاب ، ومثله معه ، ألا إني أوتيت القرآن ، ومثله معه ، ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته ، يقول : عليكم بالقرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرَّموه [٦] .

وفي هذا الحديث عدة أمورمهمة لابد من الوقوف عندها :

 الأمرالأول : عبَّرالنبي صلى الله عليه وآله بلفظ : ((يوشك)) ، ولم يقل : ((سيكون)) أو ((سيحصل كذا وكذا)) ، وفي هذا دلالة على قرب ووقوع هذا الأمر، فإن فعل أوشك يدل على الإسراع المفضي إلى القرب كما نصَّ على ذلك أهل اللغة ، ولا يوجد أقرب من هذه الحادثة كمصداق لهذا التحذير.

الأمرالثاني : من أهم الألفاظ المهمة في هذا الحديث ، التعبير بالأريكة ، وهي كما قال ابن أثير: السرير في الحجلة من دونه ستر، ولا يسمّى منفرداً أريكة ، وقيل : هو كل ما اتُّكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة [٧]..وهي في هذا الخبر كناية عن السلطة والحكم ، فالشخص الذي يمنع من الحديث ليس إنساناً من عوام الناس ، بل هو رجل مبسوط اليد وصاحب نفوذ ، وهو ما يتلاءم مع فعل أبي بكرالمذكور.

الأمرالثالث : تطابق لفظ الحديث النبوي مع قول أبي بكر مطابقة تامة ، بحيث لا تدع مجالاً للشك في كون الثاني هو مصداق للأول ، ففي الحديث النبوي عبر بقوله : ((عليكم بالقرآن،فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرَّموه)) ، وأما في كلام أبي بكر فقوله : (( بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله ، وحرَّموا حرامه )) ، وهذا من دلائل النبوة ومن معجزات الرسالة .

وأما عمر بن الخطاب : فإنه هو أول من قاد هذه الحملة ، وصاحب السبق فيها ، فقد بدأ منذ حياة النبي صلى الله عليه وآله فی التشکیك فی حجیة قوله وفعله وتقريره ، ولذلك نجد أن كان من أكثرالصحابة المعترضين على ما يفعله رسول لله صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن هوى ، إن هو إلا وحي يوحى !

ولذلك أطلق أهل السنة اسم الموافقات على هذه الحالة ، وهي أن يقول النبي صلى الله عليه وآله شیئاً ، ويخالفه عمر بن الخطاب فيه ، فينزل الوحي موافقاً لقول عمر، ومَخطَئا لقول خير البشرصلى الله عليه وآله .

وقد جعل السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) باباً أسماه : في موافقات عمر [٨] ، قال فيه ، قد أوصلها بعضهم إلى أكثرمن عشرين !

بل إن ابن حجر العسقلاني يصرّح بأن عمر بن الخطاب فهم القرآن الكريم ، في حين أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله لم یفهمه  فنزل الوحي مُصوَّباً لفهم عمر في قصة الصلاة على ابن سلول !

قال ابن حجر: عن ابن عباس : فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ قال : أين ؟ قال : قال : (أستَغفِرلَهُم) الآیة .

وهذا مثل رواية الباب ، فكان عمر قد فهم من الآیة المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن ((أو) ليست لتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور، أي أن الاستغفارلهم وعدم الاستغفار سواء ، وهو كقوله تعالى : (سَوَآءٌ عًلًیهَم أستًغفًرتً لًهٍم آًم لًم تًستًغفِرلَهُم) ، لكن الثانية أصرح ، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة كما سأذكره ، وفهم عمرأيضاً من قوله  ( سَبعِين مَرَّة) أنها للمبالغة ، وأن العدد المعين لا مفهوم له ، بل المراد نفي المغفرة لهم ولو كثرالاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار، فأطلقه ، وفهم أيضاً أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت والشفاعة له ، فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار ترك الصلاة ، لذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة ، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أُبّي ، هذا تقرير ما صدرعن عمر مع ما عُرف من شدّة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين ، وهوالقائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدراً وغيرذلك لكونه كاتب قريشاً قبل الفتح : دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فقد نافق . فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وآله بما قال ، ولم یلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة [٩] .

وبناء على هذا فإن عمر بن الخطاب قد طعن في حجية سُنّة النبي صلى الله عليه وآله فی أواخرحياته بقولته المعروفة : (( حسبنا كتاب الله)) [١٠] ، التي تحصرالحجية في القرآن الکریم فقط ، وتسقط كل ما سواه من الأمورالتي ثبتت حجيتها ، وبالخصوص السُّنّة النبويّة المطهَّرة .

ولايقولن أحدكم : إننا بصدد التحامل على عمر وإلزامه بما يلتزم ، إذ أن البعض جعل هذه العبارة من فقه عمر كما ذكرالنووي ، حيث قال : اتفق قول العلماء على أن قول عمر: ((حسبنا كتاب الله)) من قوة فقه ودقيق نظره ؛ لأنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها ، فاستحقوا العقوبة ؛ لكونها مصنوعة ، وأراد أن لا ينسد باب الاجتهاد على العلماء ، وفي تركه صلى الله عليه وآله الإنكارعلى عمر إشارة إلى تصويبه رأيه ، وأشاربقوله : (( حسبنا كتاب الله)) إلى قوله تعالى ( مّا فّرَّطنَا فِي الكِتّابِ مِن شَىءٍ) [١١] .

بل إننا ندين القوم بما ذكروه والتزموا به ، فأولاً نقول : إن اللفظ أريد به عمومه ؛ لعدم وجود قرينة تدل على تخصيصه ، أو عدم إرادة ظاهره .

وثانياً : ما ذكره الذهبي من أن هذا اللفظ هو من قول الخوارج !

فقد قال في (تذكرة الحفاظ) في تعليقه على رواية ميراث الجدة : هذا المرسل يدلك أن مرادالصدَّيق التثبت في الأخبار والتحري ، لا سد باب الرواية ، ألا تراه لما نزل به أمرالجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة ، فما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهربثقة آخر، ولم يقل : (( حسبنا كتاب الله)) كما تقوله الخوارج .[١٢]

فكلام الذهبي واضح صريح في أن هذه المقالة هي من مختصات الخوارج ، وأن المقصود منها سد باب الرواية ، وإسقاط حجية السنة كما هو عندهم .

وتواصلت هذه الحملة الشعواء على سُنّة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله بعد انتقاله صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى ، فزجرالخليفة الثاني كل من كان يحدَّث بُسنّة المصطفى صلى الله عليه وآله وینشرها بین الناس .

فقد روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح : عن قرظة بن كعب ، قال : خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صرار، فتوضأ ، ثم قال : أتدرون لم مشيت معكم ؟ قالوا: نعم ، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله مشیت معنا ؟ قال : إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فلا تبدونهم بالأحاديث ، فيشغلونكم ، جرَّدوا القرآن ، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وامضوا وأنا شريككم . فلما قدم قرظة قالوا : حدَّثْنا . قال : نهانا ابن الخطاب [١٣] .

وذكرابن سعد في طبقاته حادثة مهمة تؤكَّد هذه الحقيقة ، حيث قال : أرسل عمرأُبیًّا، قال : وأقبل أبي على عمر، فقال : ياعمر أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال عمر: یا أبا المنذر لا والله ،ما اتهمتك عليه ، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ظاهراً [١٤] .

قال ابن كثيرالدمشقي : ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له : إنك تأتي قوماً لهم في مساجدهم دوي بالقرآن کدوي النحل ، فدعهم على ما هم عليه ، ولا تشغلهم بالأحاديث ، وأنا شريكك في ذلك . هذا معروف عن عمر [١٥] .

وقال الذهبي : هكذا هو كان عمر رضي الله عنه يقول : أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وزجرغير واحد من الصحابة عن بث الحديث ، وهذا مذهب لعمر ولغيره [١٦] .

وقال ابن قتيبة : وكان عمرأيضاً شديداً على من أكثر الرواية ، أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه ، وكان يأمرهم بأن يقلّو الرواية [١٧].

ومن هنا عاقب عمر بن الخطاب كل من خالف سياسته في منع التحديث بأشد العقوبات كائناً من كان، واتخذ عدّة إجراءات :

منها : حبسه لبعض كبارالصحابة : كما روى الطبراني بسنده عن سعد بن إبراهيم عن أبيه ، قال : بعث عمر بن الخطاب إلى ابن مسعود وأبي مسعود الأنصاري وأبي الدرداء ، فقال : ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟! فحبسهم بالمدينة حتى استشهد [١٨] .

وروي عن عبدالرحمن بن عوف ، قال : والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فجمعهم من الآفاق : عبدالله بن حذافة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر، فقال : ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فی الآفاق ؟ قالوا : أتنهانا ؟ قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم ، نأخذ ونرد عليكم . فما فارقوه حتى مات  . [١٩]

ومنها : ضربه لمن یجاهر بالتحديث بدرّته الشهيرة : ولذلك قال أبوهريرة أكبرمحدَّثي المخالفين : ما كنا نستطيع أن نقول : (( قال رسول الله صلى الله عليه وآله)) حتى قٌبض عمر، كنا نخاف السياط [٢٠] .

وروي عن أبي هريرة بسند صحيح قوله : أفإن كنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي ؟ أما والله إذا لألفيت المخفقة ستباشر ظهري [٢١] .

وروى الذهبي بسنده عن ابن عجلان : أن أباهريرة كان يقول : إني لأحدَّث أحاديث ، لو تكلَّمت بها في زمن عمر، لشَجَّ رأسي [٢٢] .

وهذا التصريح من أبي هريرة فيه إقرار بأن العقوبة التي كانت تطال من ينشرأحاديث النبي صلى الله عليه وآله هي الضرب بالدرّة والسياط .

ومنها : النفي والإبعاد عن مركز الخلافة الإسلامية وهي المدينة : فقد روي عن عمر بن الخطاب بإسناد صحيح أنه قال لأبي هريرة : لتتركنَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أو لألحقنَّك بأرض دوس [٢٣].

وقال أيضاً لكعب الأحبار: لتتركنَّ الحديث عن الأول أو لأحقنَّك بأرض القردة [٢٤] .

فهذه القيود الشديدة والرقابة الدقيقة،هي التي جعلت الرعيل الأول من الصحابة والتابعين يتخوَّفون من التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، ويتجنّبون تذاكرسُنّته وبثّها بين الناس .

والذين جاؤوا من الحكّام والخلفاء بعد الخليفتين لم يجدوا صعوبة في السيرعلى هذا المنوال ومواجهة السنة المطهرة ، فما كان عليهم إلا مواصلة ما أسَّسه سابقوهم ، والسيرعلى خطاهم :

فمثلاً صرَّح الخليفة الثالث عثمان بن عفان باتباعه لسياسة عمر بن الخطاب في تعامله مع الحديث ورواته قائلاً : لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يُسمع به في عهد أبي بكر ولاعهد عمر [٢٥] .

وجاء بعده معاوية بن أبي سفيان مترسّما لخطى أسلافه ، فقال للناس كما نقل مسلم في صحيحه : إياكم وأحاديث إلا حديثاً كان في عهد ، فإن عمر كان يخيف الناس في الله عزَّوجل [٢٦] .

ولهذا تأثرالناس بهذه السياسة ، فامتنعوا عن التحديث، إما خوفاً ورهبة من العقاب ، أو عن رغبة في نيل رضا الخلفاء .

فهذا الشعبي ينقل لنا أن عبدالله بن عمر كان على منهج أبيه ، فقد نقل عنه أحمد بن حنبل بسند صحيح أنه قال: جالست ابن عمر سنتين ، ما سمعته روى شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله [٢٧] .

وهذا السائب بن يزيد يشهد على سعد بن أبي الوقاص بقوله : صحبت سعد بن أبي وقاص سنة ، فما سمعته يحدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا حديثاً واحداً [٢٨] .

وقد صرَّح المؤرَّخون بهذه الحقيقة دون تحرّج أو تحفظ ، فقال ابن قتيبة : وكان كثيرمن جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وآله كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبدالمطلب يقلّون الرواية عنه ، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة [٢٩] .

وقال ابن قيم الجوزية : فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله ويعظّمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ، ويحدَّثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله مراراً ، ولا يصرَّحون بالسماع ، ولا يقولون ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله [٣٠] .

٣ – منع تدوين أحاديث النبي وأهل البيت عليهم السلام : الصورة الثانية للحرب المعلنة على السنة النبوية المطهرة هي منع الناس من تدوينها وكتابتها حرصاً على ضياعها وتلفها مع الأزمان .

وقد تمّت هذه الخطوة على ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى : شرعنة منع تدوين الحديث النبوي بوضع أحاديث ونصوص شرعية تنهى عن الكتابة والتدوين .

منها : ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غيرالقرآن فلیمحه [٣١] .

وما رواه الخطيب البغدادي : عن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله  نحن نکتب الأحاديث ، فقال : ما هذا الذي تكتبون ؟ قلنا : أحاديث نسمعها منك . قال : كتاب غير كتاب الله ! أّتدرون ما ضلَّ الأمم قبلكم ؟ ألا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى [٣٢] .

فهذه النصوص المنسوبة زوراً وبهتاناً إلى النبي المصطفى صلى الله عليه وآله ، جعلت غطاء شرعيًّا لمنع تدوين السُّنّة وكتابتها .

المرحلة الثانية : تطبيق سياسة المنع بزجرالناس عن الكتابة وتخويفهم من عواقبها ، ومن أمثله ذلك ما رواه عبد الرزاق الصنعاني بسند صحيح : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن ، فاستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق يستخيرالله فيها شهراً ، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله ، فقال : إني كنت أريد أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً ، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً [٣٣] .

وروى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السَّنّة ، ثم بدا له أن لا يكتبها ، ثم كتب في الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه [٣٤] .

فهذه التصريحات ليست مجرد آراء شخصية ، بل كانت بمثابة القوانين التي يجرم من خالفها ويعاقب على فعلته .

المرحلة الثالثة : إتلاف كل ما كان من الأحاديث النبوية بين يدي الصحابة مدوَّناً ، سواء تم ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أو بعد وفاته .

فقد روي أن أبا بكر قد أحرق مجموعة من الأحاديث كما روى عنه ذلك الذهبي بسنده عن عائشة ، قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلّب كثيراً . قالت فغمَّني ، فقلت : أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بُنيَّة ، هلمي الأحاديث التي عندك . فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها ؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي ، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ، ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد نقلت ذاك [٣٥] .

وروى الخطيب البغدادي بسنده عن القاسم بن محمد أن عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها ، وكرهها ، وقال : أيها الناس ، إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ؛ فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقينّ أحد عنده كتاب إلا أتاني به ، فأرى فيه رأيي . قال : فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ، ويقومها على الأمر لا يكون فيه اختلاف ؛ فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب [٣٦] .

وروي عن أبي موسى الأشعري نفس الفعل : عن أبي بردة قال : كان أبوموسى يحدثنا بأحاديث ، فنقوم أنا ومولى لي فنكتبها ، فحدثنا يوماً بأحاديث فقمنا لنكتبها ، فظن أنا نكتبها ، فقال : أتكتبان ما سمعتما مني ؟ قالا : نعم..قال: فجيئاني به. فدعا بماء فغسله ، وقال : احفظوا كما حفظنا [٣٧] .

بل ورد نص صريح يدل على أن هذه الحرب كان الغرض منها هو محاربة كل ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام ، وهو ما ذكره البغدادي بسنده عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه ، قال : جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت بيت النبي صلى الله عليه ، فاستاذنا على عبدالله فدخلنا عليه ، قال : فدفعنا إليه الصحيفة ، قال : فدعا الجارية ، ثم دعا بطست فيها ماء فقلنا له : يا أباعبدالرحمن انظرفيها ، فإن فيها أحاديث حساناً .قال: فجعل يميثها فيها ، ويقول (نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحسَنَ ألقَصَصِ بِمَآ أَوحَينَآ إلَيكَ هّذَا القُرءَانَ) ، القلوب أوعية ، فاشغلوها بالقرآن، ولاتشغلوها بما سواه [٣٨] .

وهكذا فإن تظافرالمراحل الثلاثة من منع تدوين السنة النبوية المطهرة كان لها الأثرالكبير في حرمان الأمة من هذه الدررالمحمدية والآثارالعلوية ،بل كان السبب الأساس لتقسيم هذه الأمة .

٤ – اتلاف مكتبات الشيعة عبرالتاريخ : بمراجعة التاريخ نجد أن مكتبات الشيعة قد تعرَّضت إلى حملة إتلاف منظمة ، كان الغرض منها القضاء على تراث الشيعة ، والتخلص منه للأبد ، ولعل هذا هو السبب الأساس الذي يبرَّر خلو الكتب من بعض ما ورد في (نهج البلاغة) .

ومن باب المثال لا الحصر نذكر:

ما ذكره الحموي في معجم البلدان ، حيث قال : بين السُّوْرَيْن : تثنية سُوْرالمدينة : اسم لمحلة كبيرة كانت بكرخ بغداد ، وكانت من أحسن محالها وأعمرها ، وبها كانت خزانة الكتب التي وقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرَّرة ، واحترقت فيما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة ٤٤٧هـ [٣٩] .

وهذه المكتبة تعتبرمن أهم المتاحف العلمية في عصرها ، إذ أن الحموي عبَّرعنها بقوله : (( كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحررة)) ، ونحن نقطع أنها كانت مما اعتمد عليه الشريف الرضي في (نهج البلاغة) ؛ لأنه كان يعيش ببغداد في الفترة السابقة لحرق هذه المكتبة .

ومن ذلك أيضاً ما ذكره ابن الأثيرفي كتاب الكامل ، حيث قال : وفي جملة ما أحرقوا دارين للكتب ، إحداهما وُقفت قبل أيام عضد الدولة بن بويه ، فقال عضد الدولة : هذه مكرمة سبقنا إليها ، وهي أول دار وُقفت في الإسلام .

والأخرى وقفها الوزيرأبو منصور بن شاه مردان ، وكان بها نفائس الكتب وأعيانها ، وأحرقوا أيضاً النحاسين وغيرها من الأماكن [٤٠] .

وهذا النص أيضاً لا يقل أهمية عن سابقه ، وذلك لأن هذه المكتبة كانت أيضاً ببغداد ، وحرقت عندما هجم الأعراب على البصرة في سنة ٤٨٣ هـ ، أي أن الشريف الرضي قد أدركها قبل الحرق ، أضف إلى هذا أن المكتبة هي وقف من بني بويه ، وقد قدمنا سابقاً أن علاقة الشريف الرضي بهم كانت قوية جدَّا ، فمن هنا نقطع أنه اطلع على هذه المكتبة القيمة ، لا سيما وأن ابن الأثير قد عبَّرعنها بقوله : (( وكان بها نفائس الكتب وأعيانها)) ، ولا يعقل أن الشريف الرضي لا يطلع على مثل هذا الكنز.

ومن ذلك أيضاً ما ذكره الذهبي في أكثر من مورد من كتبه من حرق المخالفين لمكتبة الشيخ الطوسي قدس سره مرارا وتكراراً !

قال في السَّيَر: وأعرض عنه الحفاظ لبدعته ، وقد أحرقت كتبه عدة نُوَب في رحبة جامع القصر  [٤١].

وقال في تاريخه : روى عنه ابنه أبوعلي الحسن ، وقد أحرقت كتبه غيرمرة ، واختفي لكونه ينقص السلف ، وكان ينزل بالكرخ ، ثم انتقل إلى مشهد الكوفة [٤٢] .

وهذه الحادثة أيضاً من النكسات التاريخية التي ابتليت بها الأمة ، فإن فقدان مثل هذه الكتب يعتبرخسارة كبيرة جدًّا لا تقدَّر بذهب أو بفضة ، ومن أراد معرفة مقدارالكتب التي كانت عند الشيخ الطوسي فما عليه إلا أن يتصفَّح كتابه الموسوم بالفهرست ؛ ليقف على عظم الجناية التي اقترفت في حق تراث المسلمين .

علماً أن الشيخ الطوسي هو من أقرب الشريف الرضي والمرتضى وكلهم تتلمذوا على يد الشيخ المفيد قدس سره ، فهذه المكتبة التي أتلفت مراراً كما نصَّ الذهبي هي من مصادرالنهج أيضاً ، لكنها هباء منثوراً .

كما أنّ هناك بعض المكتبات المهمّة تلفت بسبب عوامل أخرى منها الحروب والفتن التي عصفت ببلاد المسلمين ، ومنها ضياع الكتب بسبب عدم اهتمام الورثة وغيرها من الأسباب المختلفة .

-----------------------------------------------------------------------------------------
[١] . تذكرة الحفاظ ١ / ٣ .
[٢] . المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٨ .
[٣] . سنن الدارمي ١ / ١٥٣ .
[٤] . سنن ابن ماجة ١ / ١٠٦ .
[٥] . سنن أبي داوود ٢ / ٣٩٢ .
[٦] . مسند أحمد ٤ / ١٣١ .
[٧] . النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ٤٠ .
[٨] . تاريخ الخلفاء : ١١١ .
[٩] . فتح الباري ٨ / ٢٥٣ .
[١٠] . صحيح البخاري ٧ / ٩ .
[١١] . فتح الباري ٨ / ١٠٢ .
[١٢] . تذكرة الحفاظ ١ / ٣ .
[١٣] . المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٢ ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد وله طرق . ووافقه الذهبي في التلخيص ، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ١٠٠ .
[١٤] . الطبقات الكبرى ٤ /٢٢.
[١٥] . البداية والنهاية ٨ / ١١٥ .
[١٦] . سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .
[١٧] . تأويل مختلف الحديث : ٤١ .
[١٨] . المعجم الأوسط ٣ / ٣٧٨ .
[١٩] . كنزالعمال ١٠ / ٢٩٣ .
[٢٠] . البداية والنهاية ٨ / ١١٥ .
[٢١] . جامع معمر بن راشد الملحق بمصنَّف عبدالرزاق ١١ / ٢٦٢ .
[٢٢] . سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .
[٢٣] . البداية والنهاية ٨ / ١١٥ ، صحّح الخبر شعيب الأرنؤوط  في تحقيقه لسيراعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .
[٢٤] . البداية والنهاية ٨ / ١١٥ ، صحّح الخبر شعيب الأنؤوط في تحقيقه لسيراعلام النبلاء ٢ / ٦٠١ .
[٢٥] . تاريخ مدينة دمشق ٣٩ / ١٨٠ .
[٢٦] . صحيح مسلم ٣/ ٩٥ .
[٢٧] . مسند أحمد ٢ / ١٥٧ , صححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند .
[٢٨] . الحد الفاصل : ٥٥٧ .
[٢٩] . تأويل مختلف الحديث : ٤٢ .
[٣٠] . أعلام الموقعين ٤ / ١٤٨ .
[٣١] . صحيح مسلم ٨ / ٢٢٩ .
[٣٢] . تقييد العلم : ٣٤ .
[٣٣] . مصنف عبد الرزاق ٢٢ / ٢٥٨ .
[٣٤] . جامع بيان العلم وفضله : ٢٧٥ .
[٣٥] . تذكرة الحفاظ ١ / ٥ .
[٣٦] . تقييد العلم : ٥٢ .
[٣٧] . تقييد العلم : ٤٠ .
[٣٨] . تقييد العلم : ٥٤ .
[٣٩] . معجم البلدان ١ / ٥٣٤ .
[٤٠] . الكامل في التاريخ ١٠ / ١٨٤ .
[٤١] . سير أعلام النبلاء ١٨ / ٣٣٥ .
[٤٢] . تاريخ الاسلام ٣٠ / ٤٩١ .

يتبع .....

****************************