وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                

Search form

إرسال الی صدیق
البصرة في نهج البلاغة

الأستاذ الدكتور حميد سراج جابر

 أستاذ الفكر الإسلامي في كلية التربية للعلوم الإنسانية/جامعة البصرة

يعد نهج البلاغة من الكتب الموسوعية التي لم تقتصر على نوع واحد من انواع العلوم فعلى الرغم من وجود الاطر البايلوجية والفيزياوية والكيمياوية والفلكية فضلا" عن الدينية والادبية وما شابه ، نجد الإمام (عليه السلام) يركـز على مسائل ذات أهمية خاصة في جغرافية مدينة من المدن، فهو يبين حدودها الأرضية وتأثير هذه الحدود عليها فضلاً عن بيان الأرصاد الجوية وموقعها بالنسبة لدورة الليل والنهار وتميزها من هذه الناحية، وهذه الأوصاف نجدها جلية في ذكره عليه  السلام عن البصرة المعروفة بانبساط أرضها حالها كحال بقية مدن الجنوب في العراق، إذ أن السهل الرسوبي منبسط شأنه شأن المناطق التي تكونها ترسبات الأنهار، وقد انخفض الحوض الذي يحتله السهل الرسوبي بسبب ثقل الترسبات  والحركات الباطنية، وهو مازال مستمراً بالانخفاض.

ويقول (عليه السلام) عن هذه المدينة في معرض ذكر أهلها (أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء) وقد تباين مفهومي القرب والبعد لدى الشارحين، فبالنسبة لمفهوم القرب فقد انقسموا إلى قسمين الأول يرى بأن معنى قوله (عليه السلام) (قريبة من الماء) هو إشارة إلى كون موقع البصرة منخفضاً قريباً من البحر وهو موضع هابط إذ يشاهد دخول الماء إلى المزارع والحدائق في كل يوم.

أما القسم الثاني فيرى أن معنى هذا الكلام هو أن أرض البصرة قريبة من الغرق بالماء. مستندين في ذلك على القول أن البصرة قد غرقت مرتين بعد حياة الإمام (عليه السلام) ، ويمكن أن نضيف قرينة أخرى إلى هذا الرأي وهي أنه (عليه السلام) قد ذكر هذا الأمر عن البصرة في مناسبات أخرى مصرحاً بغرقها إذ قال في مستقبل هذه المنطقة ( كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة (صدرها) قد بعـث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتــــها، وغـــرق مـــن فــي ضــمنـها) وفـــي روايـــة أخـــــرى (وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجو سفينة أو نعامة جاثمة) وفي رواية (كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبّقها الماء حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد).

والغريب في الأمر أن من تبنى الرأيين السابقين لم يدع مجالاً لتوحيدهما وإنما انقطع بأحدهما ناقضاً الآخر، ولم يكن حال من جمع الآراء دون توفيقها بأحسن حالاً من سابقه إذا لم يكن أسوأ منه، فقد اكتفوا بالقول أن مقصد الإمام (عليه السلام) أما انخفاض أرض البصرة، أو غرقها بيد أنه يمكن القول أن الانخفاض والغرق هما بالحقيقة سبب ونتيجة، فالسبب هو انخفاض الأرض والغرق هو نتيجة هذا الانخفاض فيفترض أن ينتفي التعارض بين الرأيين وفق هذا المفهوم، إلا أن التعارض نشأ من فصل الانخفاض كسبباً للغرق واختيار أحد الأمرين، ولكن على حسـاب الرأي الآخر ليـس مسـتقلاً عنه ولا سائراً في خطه، وهذا هو الخطأ الذي وقع به أصحاب هذه الآراء.

ومع هذا الاختلاف إلا أن القولين يشيران إلى احدى صفات موقع البصرة سواءً قلنا بأيً منهما، ولكن الاختلاف الأكبر هو الذي وقع في قوله (عليه السلام) (وبعيدة من السماء) فقد رأى قسماً من الشارحين أن معنى ذلك بعد أرض البصرة عن الرحمة الإلهية نتيجة لسوء أعمال أهلها وهذا ما يمكن مناقشته من عدة جوانب:-

الجانب الأول: هو أنه يجب أن لا يحمل كل كلام الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة على الذم المرتبط كلياً مع سوء أعمال أهل البصرة، وذلك لأنه (عليه السلام) ذكر صفات سلبية أخرى لهذه المنطقة من جنس أعمال أهلها ، وفضلاً عن ذلك ذكر موقع منطقتهم وامكان تعرضه للغرق وانخفاض أرضهم وغير هذا من الأمور. مما يستدعي القول أن البعد عن السماء صفة من هذه الصفات الكثيرة.

الجانب الثاني: هو أن البعد عن السماء حسب هذا الفهم يعني أنه بسبب أعمالهم المذمومة، وسوء أخلاقهم أصبحوا بعيدين عن الرحمة الإلهية وبالتالي فإن هذا البعد هو النتيجة المستفادة من الأمر، غير أننا لم نلمس هذا البعد كنتيجةً في كلام الإمام (عليه السلام)، وإنما وجدناه صفةً من الصفات التي ذكرها (عليه السلام) في بداية كلامه عن البصرة.

الجانب الثالث: أن هذا التعميم في القول أن البصرة بعيدة عن الرحمة الإلهية فيه إنكار للعدل الإلهي وإنكار لقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فلا بد أن يحمل الكلام على أساس غير هذا، ولاسيما أن الإمام (عليه السلام) يقصد المخصوصين من هذه المنطقة فعلام يحمل هذا الكلام على إطلاقه؟!

أما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن المراد ببعدها من السماء كونها بعيدة عن دائرة معدل النهار، وأن ما يدل على ذلك كون الأبلة وهي قصبة البصرة أبعد موضع في المعمورة عن معدل النهار. وهذا  الرأي فيه نظر من عدة جهات:-

الجهة الأولى: أن هناك من الشارحين من تصدى لهذا الفهم وحاول إبطال محتواه إذ قالوا أنه لعل  المراد أنها أبعد بلاد العرب عن المعدل وهذا أمر مسلم، وإلا فالظاهر أن الأبلة ليست أبعد موضع في المعمورة إذ أن هذا أمر خاطئ.

الجهة الثانية: لم يثبت علمياً أن الأبلة تعد أبعد موضع عن معدل النهار، أو بالأحرى اختلاف طريقة القياس التي يمكن أن تحدد بها هذه النتيجة، فهل هي في زمان ومكان معينين أم هي مطلقة وثابتة.

الجهة الثالثة: نستطيع القول أن هذا الفهم هو المقدمة العملية للفهم الأقرب للصحة، لاسيما وأن هناك قاسماً مشتركاً بينهما، وهو توجيه الفهم نحو موقع البصرة وأثره لا توجيهه نحو مفهوم معنوي ظاهري.

ولم يبقى سوى الرأي الأقرب للصحة والذي يقول أن بعدها من السماء هو سبب كون موضعها هابطاً قريباً من البحر وانخفاضها عن غيرها من المناطق. أما القرائن التي تؤيد ذلك فيمكن تحديدها بالنقاط الآتية:-

١ـ تكامل الصورة التي أراد الإمام (عليه السلام) رسمها بقوله (قريبة من الماء وبعيدة من السماء) فكما مرّ أن القرب من الماء هو الانخفاض الذي يؤدي إلى الغرق، وهذا الانخفاض ذاته الذي يؤدي إلى البعد عن السماء فيكون بذلك الأمرين مترابطين وتكون الصورة أكثر منطقية.

٢ـ أن هذا الفهم هو فهم تكميلي حتى مع الرأي السابق والذي يقول بالبعد عن معدل النهار إذ أنه بالمحصلة يعني البعد عن السماء نتيجة لانخفاض الأرض، وكما مرّ فإن توحد الفكرة بشأن هذا الموضوع تجعلها أكثر مصداقية من غيرها.

٣ـ الإسناد الذي وضعه العلم المعاصر لهذه الفكرة، فالمعروف أن البصرة تقع ضمن منطقة السهل الرسوبي وهي منطقة منخفضة جداً إذ كانت بحراً واسعاً في يوم من الأيام، وهذا السهل يمتد على مناطق كثيرة من العراق في الوسط والجنوب إلى أن يصل إلى البصرة وهي آخر نقطة له في العراق. وتعد هذه النقطة أكثر المناطق انحداراً وانخفاضاً فيه مما أدى بالتالي إلى أن تصبح ممر المياه إلى البحر نتيجة هذا الانحدار.

٤ـ أغلب الشارحين ذكروا هذا الأمر متلازماً مع ما ذكروه من الآراء السابقة مما يعني أهميته، ولاسيما وضوح هذا التلازم مع الرأي السابق المكمل له كما أسلفنا.

وأخيراً فدراسة موقع البصرة وأثره تكشف عن الأفكار التالية:-

١ـ أن الإمام بين سمات تكوين البصرة والآثار المترتبة عليه، ولا سيما غرقها بالمياه، ولكن يقابل ذلك التربة الصالحة للزراعة.

٢ـ الملاحظ أنه(عليه السلام) ركزّ على الجانب السلبي في موقع البصرة الجغرافي، للوصول الى الجانب الايجابي غير انه كان يتحدث عن الواقع المعاش ومستقبله اذ نجد  أنه ذكر البيئة الزراعية ولكن المزدوجة مع صفات سلبية من أثر الموقع مما يعني ان الهدف هو وضع العلاجات.

٣ـ أنه(عليه السلام)ذكر مسألة الارتفاع والانخفاض عن مستوى سطح البحر، وأثر ذلك في التكوين الجغرافي، وفي معالم السطح، والظواهر الكونية.

٤ـ أن الإمام بوصفه للمنطقة التي يذكرها والتي تقع ضمن نطاق جغرافي معين، كأنه يذكر جيولوجية هذا النطاق كلها، فعندما ذكر البصرة وانخفاضها كأنه يشير إلى الانخفاض المعروف في أراضي العراق التي يشملها السهل الرسوبي والتي تقع البصرة ضمنها.

٥ـ انتهاج المنهج المعمول به في تصنيف المدن حسب مواقعها، ومواردها الطبيعية التي تتمتع بها.

٦ـ يحق لنا بعد كل ما مرّ القول بأن ما طرحه الإمام(عليه السلام) حول هذا الموضوع، هو دراسة للموقع من حيث الأثر، وليس من حيث الشكل فيكون الهدف من هذه الدراسة مزدوج بين الموقع بما هو موقع جغرافي محدد وبين أثره أو تأثيره الناشئ منه.

المصادر المعتمدة:

  1. الراوندي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة.
  2. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة.
  3. البحراني، شرح نهج البلاغة (الكبير).
  4. التستري، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة.
  5. كيذري بيهقي، حدائق الحقائق.
  6.  محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة.
  7. حسيني شيرازي، توضيح نهج البلاغة.
  8.  الموسوي، شرح نهج البلاغة.
  9. خطاب صكار، جغرافية العراق.
  10. د. محمد عبد الغني، الوطن العربي.     

وغيرها كثير.

****************************