وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الغرائز وتوجيهها في نهج البلاغة

يقول الإمام علي عليه السلام: "...فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها، وفكر يتصرف بها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل، معجوناً بطينة الألوان المختلفة، والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة" (١).

مقدمة
إن الإنسان مخلوق مختلف الغرائز والرغبات، يحكمه الصراع بين العقل والشهوة، وليس هو ذا بعد واحد؛ كالحيوان الذي تحكمه الشهوة فقط، أو كالملاك الذي يحكمه العقل فقط، وهذا ما يشير إليه كلام الإمام علي عليه السلام أعلاه.
وجهالة الإنسان بتركيبته، وما غرز بنفسه، سيبعده عن اللَّه تعالى؛ لأن عرف نفسه عرف خالقه.
كما يشير إلى ذلك قول الأمير عليه السلام: "اعرف نفسك تعرف ربك".
فلو قصّر الإنسان ولم يسعَ لمعرفة نفسه التي هي أقرب إليه من غيرها، والتي هي أولى بمعرفتها فإنه سيتحوَّل إلى كائن حيواني مفترس، وسيخسر الخسران المبين، وهل بعد خسران النفس من خسران.
يقول الإمام عليه السلام: "من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر" (٢).
وكيف يحاسب نفسه من لا يعرفها.
ويقول عليه السلام محذراً من سقوط الإنسان تحت هواه: "وكم من عقل أسير تحت هوى أمير" (٣).
وبعد معرفتك لنفسك عليك أن تجدّ وتجتهد، لا أن تستسلم وتتكاسل.
كما يقول الإمام عليه السلام: "فعليكم بالجد والاجتهاد والتأهب والاستعداد والتزوّد في منزل الزاد" (٤).
وعليك أن تهذِّب غرائزك بعد أن تعرفها، لأنه إن لم تتولّى ذلك بنفسك فلن يتولّى الغير ذلك.
يقول الأمير عليه السلام: "أيها الناس تولّوا من أنفسكم تأديبها واعدلوا بها عن ضراوات عاداتها" (٥).
فقدرك أيها الأخ العزيز على قدر همّتك.
كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "قدر الرجل على قدر همّته" (٦).

غريزة الأكل والشرب
لا بد لكل كائن حي أن يأكل وأن يشرب من أجل استمرار حياته، وهذا أمر طبيعي قد جعله الله تعالى في غريزة الإنسان ليضمن بقاءه واستمراره، ولكن تتحول هذه الغريزة من نعمة تحافظ على الإنسان إلى نقمة تضيع أهدافه إذا تحول الأكل والشرب ليصبح قضية الإنسان الرئيسية و هدفه الأساسي فيضحي من أجل ذلك بكل قيمه الإنسانية.
يقول الإمام علي عليه السلام: "ولا تُدخلوا بطونكم لَعَق الحرام فإنكم بعين من حرّم عليكم المعصية وسهَّل لكم سبل الطاعة" (٧).
ثم يجري مقارنة مهمة فيقول عليه السلام: "إن البهائم همها بطونها، وأن السباع همها العدوان على غيرها" (٨).
وأما الإنسان فهذه الأمور عنده وسائل لتحقيق همه الأساسي وهو الفوز وسعادة الآخرة ورضوان الله تعالى.
ويقول عليه السلام: "فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها" (٩).

غريزة الزواج
يرتبط استمرار وجود النوع الإنساني بغريزة الزواج، وهذا أمر طبيعي قد خلقه الله تعالى في الإنسان بل وحث الإنسان على الزواج وجعله مستحباً وجعله من الأمور التي يحرز بها الدين، كما في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "من تزوج أحرز نصف دينه".
ولكن إذا لم تربّ هذه الغريزة ولم يسيطر عليها ولم تهذّب، فإنها كذلك ستتحول من نعمة إلى نقمة وستجر الفرد والمجتمع إلى الانهيار والانحراف فيصبح كالحيوان همه إشباع بطنه وفرجه ويصبح من أهل النار والغضب الإلهي والعياذ بالله ومصداقاً للحديث النبوي الشريف: "أكثر ما تلج به أمتي النار الأجوفان: البطن والفرج".
ويقول الإمام عليه السلام: "... فرحم اللَّه رجلاً نزع عن شهوته وقمع هوى نفسه" (١٠).
فالمؤمن يقمع هوى النفس حتى يسيطر على غرائزه لتكون طوع أمره فيوجهها بما يريد الله تعالى، ولا يتركها تطغى حتى تسيطر عليه وتستعبده فتذله في الدنيا ويكون من الخاسرين في الآخرة والعياذ بالله .

غريزة الغضب
من الطبيعي أن تشهد حياة الإنسان الاجتماعية، وقوع هجمات خارجية، لذلك لا بد لكل كائن حي أن يمتلك قدرة على الدفاع عن نفسه ووسائل وأدوات للمحافظة عليها ووقايتها والرد على هجمات العدو، لذلك فإن رب الخليقة الحكيم قد وهب لكل كائن حي إنساناً وحيواناً من وسائل الدفاع ما يتناسب وحاجته وطريقته في الدفاع عن النفس، وما غريزة الغضب إلا واحدة من تلك الوسائل، فهي مقدسة وثمينة حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن النفس والمجتمع والأموال والأعراض، ويعد استخدامها شكلاً من أشكال الصراع والجهاد، ولكنها إن لم تهذّب ولم تستخدم في مواضع الدفاع الحقة بما رسمه اللَّه تعالى، فإنها ستكون وسيلة مدمرة تدل على الجنون.
إذ قال الإمام علي عليه السلام: "الحدّة ضر من الجنون لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم" (١١).
لذلك فإن غريزة الغضب من النعم الإلهية التي يمكن الاستفادة منها بالاتجاه الإنساني بعد تنميتها والسيطرة عليها وتهذيبها.

غريزة التطلع نحو الحرية
وهو السبيل الصحيح لبلوغ السعادة والتكامل، ومحاربة الظلم والجور والاستبداد، ولكن ينبغي لنا ألا ننسى أن سوء استغلال الحرية أمر غير مقبول، إذ ينبغي عدم التذرع بالتطلع إلى الحرية للتمرد على القوانين الإلهية والاجتماعية، أو الإعراض عن الوالدين والأساتذة والمربين الحريصين، أو الاحتجاج بالحرية في القبول لمختلف أشكال العبودية والفساد التي تتعارض مع حرية الإنسان الحقيقية.
يقول الإمام علي عليه السلام مخاطباً مالك الأشتر: "... فاملك هواك وشُحّ‏َ بنفسك عما لا يحل لك" (١٢).
وفي موضع آخر يأمرعليه السلام كميل بن زياد بتوجيه أسرته نحو المحاسن بالمراقبة والاشراف الصحيح، يقول له: "... يا كميل، مُر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ويُدلجوا في حاجة من هو نائم" (١٣).
ولا يتصور العبد أن التحرر في الإبتعاد عن الدين، بل العكس هو الصحيح فالابتعاد عن الشرع الإلهي هو وقوع في حبائل الشيطان الرجيم ووقوع تحت أسره وتسلطه، ومما يوصي به الإمام علي عليه السلام ولده الإمام الحسن عليه السلام: "ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللَّه حراً" (١٤).

غريزة الخوف
الخوف مقبول بالدرجة التي تخلق لدينا روح الحذر والتدبير وتخيفنا من عواقب الذنوب والسيئات وانهيار شخصيتنا وقيمنا.
يقول الإمام علي عليه السلام: "رحم اللَّه امرءاً سمع حُكماً فوعى... راقب ربَّه وخاف ذنبه" (١٥).
ولكن إذا لم تتم السيطرة على غريزة الخوف وتهذيبها وتوجيهها فإنها ستجر الإنسان نحو الانزواء والجبن والهوان والشك والتردد والمذلة، وهنا ينبغي مكافحته. فالخوف من الله كمال، والخوف من غيره نقص وضعف وهوان، ويؤكد الإمام عليه السلام على عدم واقعية هذا الخوف عندما يقول: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنه شدّة توقيه أعظم مما تخاف منه" (١٦).

غريزة حب التفوق
إن الرغبة الكامنة في الإنسان في التقدم على أقرانه وبني جنسه والانطلاق نحو الأمام، صفة بناءة، ولكن إذا لم تهذب هذه الغريزة فإنها تؤدي إلى الأنانية، والاستبداد، وحب الهيمنة، والغطرسة والاستئثار، وإزاحة الآخرين، وحرمانهم من حقوقهم، مما يخلق حالة فاجعة ومدمرة تكون أساساً لكل أشكال الاستبداد، والاستغلال، والاستعمار الاقتصادي والثقافي، وعندها ينبغي محاربتها وحصرها لكي تصبح أساساً للتسابق والمسارعة إلى الخيرات.
يقول الإمام عليه السلام لمالك الأشتر: "... يا مالك، وإياك والاستئثار بما للناس فيه أسوة... فإنه مأخوذ منك لغيرك" (١٧).
ويقول عليه السلام: "ولا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها" (١٨).
وفي موضع آخر يتحدث عن حب التفوق المقبول فيقول عليه السلام: "اللهم إني أوّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بالصلاة" (١٩).
ويقول عليه السلام: "فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها" (٢٠).

روح التقليد والاقتداء
عندما تكون روح تقليد الآخرين واتباعهم ضمن اطار حب تقليد الرموز واتباع القدوات الحسنة الكاملة وباتجاه المحاسن والقيم الأخلاقية والمسيرة التكاملية، فهي مقبولة ومطلوبة.
يقول الإمام علي عليه السلام: "انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى" (٢١).
ولكن لئن لم تهذَّب روح التقليد والطاعة والاقتداء وتوجه توجيهاً سليماً، فقد تحمل محلها روح التقليد الأعمى، فتصاب المجتمعات الإنسانية بالانحرافات والمآسي الاجتماعية يقول الإمام عليه السلام: "ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم لحذرهم، وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهم أساس الفسوق" (٢٢).
وذلك مثل تقليد المجتمعات المتخلفة للغرب في فسوقه وفساده.
بناء على ما تقدّم، يجب على الإنسان وهو أشرف المخلوقات وخليفة اللَّه في أرضه، أن يسيطر على غرائزه وميوله ويهذبها لكي يتمكن من الانطلاق إلى الكمال ويبلغ السعادة الإنسانية الحقيقية.
-------------------------------------
(١) نهج البلاغة، خطبة ١.
(٢) نهج البلاغة، قصار الكلمات ٢٠٨.
(٣) نهج البلاغة، قصار الكلمات ٢١١.
(٤) نهج البلاغة، خطبة ٢٣٠.
(٥) نهج البلاغة، قصار الكلمات ٣٥٩.
(٦) نهج البلاغة، قصار الكلمات ٤٧.
(٧) نهج البلاغة، خطبة ١٥١.
(٨) نهج البلاغة، خطبة ١٥٣.
(٩) نهج البلاغة، كتاب ١٥ ٤٥.
(١٠) نهج البلاغة، خطبة ١٧٦.
(١١) نهج البلاغة، قصار الكلمات ٢٢٣.
(١٢) نهج البلاغة، كتاب ٥٣.
(١٣) نهج البلاغة، قصار الكلمات ٢٥٧.
(١٤) نهج البلاغة، كتاب ٣١.
(١٥) نهج البلاغة، خطبة ٧٦.
(١٦) نهج البلاغة، قصار الكلمات ١٧٥.
(١٧) نهج البلاغة، كتاب ٥٣.
(١٨) نهج البلاغة، خطبة ٥ ٩٩.
(١٩) نهج البلاغة، خطبة ١٣١.
(٢٠) نهج البلاغة، قصار الكلمات ٦ ٢٨٩.
(٢١) نهج البلاغة، خطبة ٩٧.
(٢٢) نهج البلاغة، خطبة ١٩٢.

****************************