ومن خطبة له (عليه السلام)
ومن الناس من يسمّي هذه الخطبة القاصعة[١]
وهي تتضمن ذم إبليس، عَلى استكباره، وتركه السجود لادم(عليه السلام)، وأنه أول من أظهر العصبية[٢] وتبع الحمية، وتحذير الناس من سلوك طريقته.
الْحَمْدُ لله الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَالْكِبْرِيَاءَ، وَاخْتَارَهُمَا لنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمَا حِمىً[٣] وَحَرَماً عَلَى غَيْرِهِ، وَاصْطَفَاهُمَا[٤] لِجَلاَلِهِ.
[رأس العصيان]
وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذلِكَ مَلاَئِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ، لَِيمِيزَ المُتَوَاضِعيِنَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ القُلُوبِ، وَمَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ) اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بَخَلْقِهِ، وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لاَِصْلِهِ.
فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ.
أَلاَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللهُ بِتَكَبُّرِهِ، وَوَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ، فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً، وَأَعَدَّ لَهُ فِي الاْخِرَةِ سَعِيراً؟!
[ابتلاء الله لخلقه]
وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُور يَخْطَفُ الاَْبْصَارَ ضِيَاؤُهُ، وَيَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ[٥]، وَطِيب يَأْخُذُ الاَْنْفَاسَ عَرْفُهُ[٦]، لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الاَْعْنَاقُ خَاضِعَةً، وَلَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى المَلائِكَةِ.
وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْيِيزاً بِالاخْتِبَارِ لَهُمْ، وَنَفْياً لِلاْسْتِكَبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُم.
[طلب العبرة]
فَاعْتَبِروا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ[٧] الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَة، لاَ يُدْرَى أمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الاْخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَة وَاحِدَة.
فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟ كَلاَّ، مَا كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْر أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّماءِ وأَهْلِ الاْرْضِ لَوَاحِدٌ، وَمَا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَد مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ[٨] فِي إِبَاحَةِ حِمىً حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمينَ.
[التحذير من الشيطان]
فَاحْذَرُوا عَدُوَّ اللهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ[٩]، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ[١٠] [ بِنِدَائِهِ، وَأَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ ]بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ[١١].
فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ[١٢] الْوَعِيدِ، وَأَغْرَقَ[١٣] لَكُم بِالنَّزْعِ[١٤] الشَّدِيدِ، وَرَمَاكُمْ مِنْ مَكَان قَرِيب، و(قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لاَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، قَذْفاً بِغَيْب بَعِيد، وَرَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيب، صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ، وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ، وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ.
حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ[١٥] مِنْكُمْ، وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ[١٦] مِنْهُ فِيكُمْ، فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِىِّ[١٧] إِلَى الاَْمْرِ الْجَلِيِّ، اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ، وَدَلَفَ[١٨] بِجُنُودِهِ نَحْوَ كُمْ، فَأَقْحَمُوكُمْ[١٩] وَلَجَاتِ[٢٠] الذُّلِّ، وَأَحَلُّوكم وَرَطَاتِ الْقَتْلِ، وَأَوْطَأُوكُمْ[٢١] إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ[٢٢]، طَعْناً فِي عُيُونِكُم، وَحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ، وَدَقّاً لِمَناخِرِكُمْ، وَقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ، وَسوقاً بِخَزَائمِ[٢٣] الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ المُعَدَّةِ لَكُمْ، فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ جَرْحاً، وَأَوْرَى[٢٤] فِي دُنْيَا كُمْ قَدْحاً، مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ[٢٥]، وَعَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ[٢٦].
فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ[٢٧]، وَلَهُ جَدَّكُمْ[٢٨]، فَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ، وَوَقَعَ في حَسَبِكُمْ، وَدَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ، وَأَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ، يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَان، وَيَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَان[٢٩]، لاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَة، وَلاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَة، فِي حَوْمَةِ ذُلّ[٣٠]، وَحَلْقَةِ ضِيق، وَعَرْصَةِ مَوْت، وَجَوْلَةِ بَلاَء.
فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، وإنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَواتِهِ[٣١]، وَنَزَغَاتِهِ[٣٢] وَنَفَثَاتِهِ[٣٣].
وَاعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُؤُوسِكُمْ، وَإِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحَتْ أَقْدَامِكُمْ، وَخَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ.
وَاتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً[٣٤] بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّة جُنُوداً وأَعْوَاناً، وَرَجِلاً وَفُرْسَاناً، وَلاَ تَكُونُوا كالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْل جَعَلَهُ اللهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ، وَقَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ، وَنَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللهُ بِهِ النَّدَامَةَ، وَأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
[التحذير من الكبر]
أَلاَ وَقدْ أَمْعَنْتُمْ[٣٥] فِي الْبَغْيِ، وَأَفْسَدْتُمْ فِي الاَْرْضِ، مُصَارَحَةً[٣٦] لله بِالمُنَاصَبَةِ، وَمُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالُمحَارَبَةِ.
فَاللهَ اللهَ في كِبْرِ الْحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ الْجَاهلِيَّةِ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ[٣٧] الشَّنَآنِ[٣٨]، وَمَنَافِخُ الشَّيْطانِ، اللاِتي خَدَعَ بِهَا الاُْمَمَ الْمَاضِيَةَ، والْقُرُونَ الْخَالِيَةَ، حَتّى أَعْنَقُوا[٣٩] فِي حَنَادِسِ[٤٠] جَهَالَتِهِ، وَمهَاوِي[٤١] ضَلاَلَتِهِ، ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ[٤٢]، سُلُساً[٤٣] فِي قِيَادِهِ، أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ، وَتَتَابَعَتِ الْقُرونُ عَلَيْهِ، وَكِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ.
[التحذير من طاعة الكبراء]
ألاَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ! الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَأَلْقَوُا الْهَجِينَةَ[٤٤] عَلَى رَبِّهِمْ، وَجَاحَدُوا اللهَ مَا صَنَعَ بِهمْ، مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ، وَمُغَالَبَةً لاِلائِهِ[٤٥]، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ، وَسُيُوفُ إعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ[٤٦].
فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَليْكُمْ أَضْدَاداً، وَلاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً، وَلاَ تُطِيعُوا الاْدْعِيَاءَ[٤٧] الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ[٤٨]، وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ، وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ، وَهُمْ أَسَاسُ[٤٩] الْفُسُوقِ، وَأَحْلاَسُ الْعُقُوقِ[٥٠]، اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَل، وَجُنْداً بِهمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ، وَدُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ، وَنَفْثاً فِي أَسْـمَاعِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ[٥١]، وَمَوْطِىءَ قَدَمِهِ، وَمأْخَذَ يَدِهِ.
[العبرة بالماضين]
فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الاَْمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ[٥٢]، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ[٥٣]، وَمَصَارعِ جُنُوبِهِمْ[٥٤]، وَاسْتَعِيذوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكبْرِ[٥٥]، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ، فَلَوْ رَخَّصَ اللهُ فِي الْكِبْرِ لاَِحَد مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنبِيَائِهِ [وَأَولِيائِهِ]، وَلكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ، وَرَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ، فَأَلْصَقُوا بِالاَْرْضِ خُدُودَهُمْ، وَعَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ، وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤمِنِينَ، وَكَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ، قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللهُ بالْـمَخْمَصَةِ[٥٦]، وَابْتَلاَهُمْ بِالْـمَجْهَدَةِ[٥٧]، وَامْتَحَنَهُمْ بِالْـمَخَاوِفِ، وَمَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ[٥٨]، فَلاَ تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَالسُّخْطَ بِالمَالِ وَالْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ، وَالاِْخْتِبَارِ فِي مَوَاضِعِ الْغِنَى وَالاِْفْتِقارِ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَال وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ)، فَإِنَّ اللهَ سْبْحَانَهْ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ.
[تواضع الانبياء(عليهم السلام)]
وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ(عليهما السلام) عَلَى فِرْعَوْنَ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ، وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ، فَشَرَطَا لَهُ ـ إِنْ أَسْلَمَ ـ بَقَاءَ مُلْكِهِ، وَدَوامَ عِزِّهِ، فَقَالَ: أَلاَ تَعْجبُونَ مِنْ هذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ، وَبَقَاءَ الْمُلْكِ، وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ، فَهَلاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَب؟ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ، وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ! وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ بأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الْذِّهْبَانِ[٥٩]، وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ[٦٠]، وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طَيْرَ السَّماءِ وَوُحُوشَ الاَْرَضِينَ لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلاَءُ[٦١]، وَبَطَلَ الْجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ الاَْنْبَاءُ، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلِينَ، وَلاَ اسْتَحَقَّ الْمُؤمِنُونَ ثَوَابَ الْـمُحْسِنِينَ، وَلاَ لَزِمَتِ الاَْسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّة فِي عَزَائِمِهِمْ، وَضَعَفَةً فِيَما تَرَى الاَْعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَة تَمْلاُ الْقُلُوبَ وَالْعُيُونَ غِنىً، وَخَصَاصَة[٦٢] تَمْلاَُ الاَْبْصَارَ وَالاَْسْمَاعَ أَذىً.
وَلَوْ كَانَتِ الاَْنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّة لاَ تُرَامُ، وَعِزَّة لاَ تُضَامُ، وَمُلْك تُمَدُّ نُحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وَتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَكَانَ ذلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الاِْعَتِبَارِ، وَأَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ الاِْسْتَكْبَارِ، وَلامَنُوا عَنْ رَهْبَة قَاهِرَة لَهْمْ، أَوْ رَغْبَة مَائِلَة بِهِمْ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً، وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً.
وَلكِنَّ اللهَ سْبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الاِْتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَالْتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، وَالاِْسْتِكَانَةُ لاَِمْرِهِ، وَالاِْسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً، لاَ تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْبلْوَى وَالاِْخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَالْجَزَاءُ أَجْزَلَ.
[الكعبة المقدسة]
ألاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ، اخْتَبَرَ الاَْوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ، إِلَى الاخِرِينَ مِنْ هذا الْعَالَمِ، بَأَحْجَار لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلاَ تُبْصِرُ وَلاَ تَسْمَعُ، فَعَجَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً.
ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الاَْرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ[٦٣] الدُّنْيَا مَدَراً[٦٤]، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الاَْوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَال خَشِنَة، وَرِمَال دَمِثَة[٦٥]، وَعُيُون وَشِلَة[٦٦]، وَقُرىً مُنْقَطِعَة، لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَلاَ حَافِرٌ وَلاَ ظِلْفٌ[٦٧].
ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ[٦٨] نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهمْ[٦٩]، وَغَايَةً لِمُلْقَى[٧٠] رِحَالِهِمْ، تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ[٧١] الاَْفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ[٧٢] قِفَار سَحِيقَة[٧٣]، وَمَهَاوِي[٧٤] فِجَاج[٧٥] عَمِيقَة، وَجَزَائِرِ بِحَار مُنْقَطِعَة، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ[٧٦] ذُلُلاً يُهَلِّلُونَ لله حَوْلَهُ، وَيَرْمُلُونَ[٧٧] عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً[٧٨] غُبْراً[٧٩] لَهُ، قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ[٨٠] وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ[٨١] مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ، ابْتِلاَءً عَظِيماً، وَامْتِحاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، وَوُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ.
وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّات وَأَنْهَار، وَسَهْل وَقَرَار[٨٢]، جَمَّ الاَْشْجَارِ[٨٣]، دَانِيَ الِّثمارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى[٨٤]، مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّة سَمْرَاءَ[٨٥]، وَرَوْضَة خَضْرَاءَ، وَأَرْيَاف[٨٦] مُحْدِقَة، وَعِرَاص[٨٧] مُغْدِقَة[٨٨]، وَزُرُوع نَاضِرَة، وَطُرُق عَامِرَة، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ.
وَلَوْ كَانَ الاِْسَاسُ[٨٩] الْـمَحْمُولُ عَلَيْهَا، وَالاَْحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، بَيْنَ زُمُرُّدَة خَضْرَاءَ، وَيَاقُوتَة حَمْرَاءَ، وَنُور وَضِيَاء، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُضَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ[٩٠] الرَّيْبِ مِنَ الْنَّاسِ.
وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَلْوَانِ الْـمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهمْ، وَلِيَجْعَلْ ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً[٩١] إِلَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلاًلِعَفْوِهِ.
[عود إلى التحذير]
فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتهُ الْكُبْرَى، الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ[٩٢] الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي[٩٣] أَبَداً، وَلاَ تُشْوِي[٩٤] أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلاَ مُقِلاًّ في طِمْرِهِ[٩٥].
وَعَنْ ذلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الاَْيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تسْكِيناً لاََطْرَافِهِمْ[٩٦]، وَتَخْشِيعاً لاَِبْصَارِهمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ، لِما فِي ذلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ[٩٧] بالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالاَْرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالمُتونِ[٩٨] مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً، مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الاَْرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ.
انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هذِهِ الاَْفْعَالِ مِنْ قَمْعِ[٩٩] نَوَاجِمِ[١٠٠] الْفَخْرِ، وَقَدْعِ[١٠١] طَوَالِعِ الْكِبْرِ!
[العصبية]
وَلَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْء مِنَ الاَْشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّة تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلاَءِ، أَوْ حُجَّة تَلِيطُ[١٠٢] بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ، فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لاَِمْر مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ.
أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لاَِصْلِهِ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ.
وَأَمَّا الاَْغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ[١٠٣] الاُْمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لاِثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ[١٠٤]، فَـ (قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)
فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُهُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الاَْفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الاُْمُورِ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْـمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَيَعَاسِيبِ[١٠٥] الْقَبَائِلِ، بِالاَْخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ[١٠٦]، وَالاَْحْلاَمِ[١٠٧] الْعَظِيمَةِ، وَالاَْخْطَارِ الْجَلِيلَةِ، وَالاْثَارِ الَمحْمُودَةِ.
فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ[١٠٨]، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ[١٠٩]، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَالاَْخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ، وَالاِْعْظَامِ لِلْقَتْلِ، وَالاِْنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَالْكَظْمِ لِلْغَيْظِ، وَاجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الاْرْضِ.
واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالاُْمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلاَتِ[١١٠] بِسُوءِ الاَْفْعَالِ، وَذَمِيمِ الاَْعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ.
فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ[١١١] حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْر لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ، وَزَاحَتِ الاَْعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ، وَمُدَّتِ[١١٢] الْعَافِيَةُ فِيهِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، وَوَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُم: مِنَ الاِْجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، وَاللُّزُومِ لِلاُْلْفَةِ، وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، وَالتَّوَاصِي بِهَا.
وَاجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْر كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ[١١٣]، وَأَوْهَنَ[١١٤] مُنَّتَهُمْ[١١٥]: مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وَتَخَاذُلِ الاَْيْدِي.
وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التـَّمحِيصِ[١١٦] وَالْبَلاَءِ؟ أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً، وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاَءً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً؟! اتَّخَذَتْهُمُ الْفَراعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُم سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ[١١٧]، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاع، وَلاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاع، حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الاَْذَى فِي مَحَبَّتِهِ، وَالاحْتَِمالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً، فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَالاَْمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الاْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ.
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الاَْمْلاَءُ[١١٨] مُجْتَمِعَةً، وَالاَْهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَالاَْيْدِي مُتَرَادِفَةً[١١٩]، وَالسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً، أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً[١٢٠] فِي أَقْطَارِ الاَْرَضِينَ، وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟
فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الاُْلْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالاَْفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ[١٢١]، وَبَقّى قَصَصَ أَخْبَارِهِمْ[١٢٢] فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ.
[الاعتبار بالامم]
فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَبَنِي إِسْحَاقَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ(عليهم السلام)، فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ[١٢٣] الاَْحْوَالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ[١٢٤] الاَْمْثَالِ!
تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ، وَتَفَرُّقِهِمْ، لَيَالِيَ كَانَتِ الاَْكَاسِرَةُ وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ، يَحْتَازُونَهُمْ[١٢٥] عَنْ رِيفِ الاْفَاقِ، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا، إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ، وَمَهَا فِي[١٢٦] الرِّيحِ، وَنَكَدِ[١٢٧] الْمَعَاشِ، فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَ بَر[١٢٨] وَوَبَر[١٢٩]، أَذَلَّ الاُْمَمِ داراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لاَ يَأْوُونَ[١٣٠] إِلَى جَنَاحِ دَعْوَة يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلاَ إِلَى ظِلِّ أُلْفَة يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا، فَالاَْحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالاَْيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ، فِي بَلاَءِ أَزْل[١٣١]، وأَطْبَاقِ جَهْل! مِنْ بَنَات مَوْءُودَة[١٣٢]، وَأَصْنَام مَعْبُودَة، وَأَرْحَام مَقْطُوعَة، وَغَارَات مَشْنُونَة[١٣٣].
[النعمة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)]
فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ[١٣٤] فِي عَوَائِدِ[١٣٥] بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ[١٣٦]، قَدْ تَرَبَّعَتِ[١٣٧] الاُْمُورُ بِهِمْ، فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِر، وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزّ غَالِب، وَتَعَطَّفَتِ الاُْمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْك ثَابِت، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الاَْرَضِينَ، يَمْلِكُونَ الاُْمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الاَْحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ! لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ[١٣٨]، وَلاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ[١٣٩]!
[لوم العصاة]
أَلاَ وَإنَّكُمْ قَد نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ[١٤٠] حِصْنَ اللهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ، بَأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هذِهِ الاُْمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الاُْلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا، وَيَأْوُونَ إَلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَة لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْـمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً، لاَِنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَن، وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَر.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً، وَبَعْدَ الْمُوَالاَةِ[١٤١] أحْزَاباً، مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الاِْسْلاَمِ إِلاَّ بِاسْمِهِ، وَلاَ تَعْرِفُونَ مِنَ الاِْيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ، تَقُولُونَ: النَّارَ وَلاَ الْعَارَ! كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الاِْسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ، انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ، وَنَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ، وأَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ.
وإِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ، ثُمَّ لاَ جَبْرَائِيلُ وَلاَ مِيكَائِيلُ وَلاَ مُهَاجِرُونَ وَلاَ أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلاَّ الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ.
وَإِنَّ عِنْدَكُمُ الاَْمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللهِ تَعَالَى وَقَوَارِعِهِ، وَأَيَّامِهِ وَوَقَائِعِهِ، فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بَأَخْذِهِ، وَتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ، وَيأْساً مِنْ بَأْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ الاَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنكَرِ، فَلَعَنَ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي، وَالْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ الْتَّنَاهِيْ!
أَلاَ وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الاِْسْلاَمِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وَأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ.
أَلاَ وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي وَالْنَّكْثِ[١٤٢] وَالْفَسَادِ فِي الاَْرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ[١٤٣] فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا الْمَارِقَةُ[١٤٤] فَقَدْ دَوَّخْتُ[١٤٥]، وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ[١٤٦] فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَة[١٤٧] سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةَ قَلْبِهِ[١٤٨] وَرَجَّةَ صَدْرِهِ[١٤٩]، وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لاَُدِيلَنَّ مِنْهُمْ[١٥٠] إِلاَّ مَا يَتَشَذَّرُ[١٥١] فِي أَطْرَافِ الاَْرْضِ تَشَذُّراً!
[شجاعته وفضله (عليه السلام)]
أَنَا وَضَعْتُ [فِي الصِّغَرَ] بَكَلاَكِلِ[١٥٢] الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ[١٥٣] رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.
وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وليدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ[١٥٤]، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْل، وَلاَ خَطْلَةً[١٥٥] فِي فِعْل.
وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ(صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ [أَنْ] كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ[١٥٦] أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً[١٥٧] مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ[١٥٨]، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الاِْسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ(صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر».
وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ(صلى الله عليه وآله) لَمَّا أَتاهُ المَلاَُ مِنْ قُريْش، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحُمَّدُ، إِنَّكُ قَدِ ادَّعْيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَلاَ أحَدٌ مِن بَيْتِكَ، وَنَحْنُ نَسَأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّكَ نِبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ.
فَقَالَ لهم(صلى الله عليه وآله): «وَمَا تَسْأَلُونَ؟».
قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ.
فَقَالَ(صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ، فإِنْ فَعَلَ اللهُ ذلِكَ لَكُمْ، أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟».
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: «فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّي لاََعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ[١٥٩] إِلَى خَيْر، وَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ[١٦٠]، وَمَنْ يُحَزِّبُ الاَْحْزَابَ».
ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤمِنِينَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الاْخِرِ، وَتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَانْقَلِعِي بعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ».
فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِيّاً لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ[١٦١] كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)مُرَفْرِفَةً، وَأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الاَْعْلَى عَلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، وَبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي، وَكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ(عليه السلام).
فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذلِكَ قَالُوا ـ عُلُوّاً وَاسْتِكْبَاراً ـ: فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا.
فَأَمَرَهَا بِذلِكَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَال وَأَشَدِّهِ دَوِيّاً، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله).
فَقَالُوا ـ كُفْراً وَعُتُوّاً ـ: فَمُرْ هذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ.
فَأَمَرَهُ فَرَجَعَ.
فَقُلْتُ أَنَا: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، إِنِّي أَوَّلُ مْؤْمِن بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بَأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَصْدِيقاً لِنُبُوَّتِكَ، وإِجْلاَلاً لِكَلِمَتِكَ.
فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ مِثْلُ هذَا! يَعْنُونَنِي.
وَإِنِّي لَمِنْ قَوْم لاَ تَأخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِم، سِيَماهُمْ سِيَما الصِّدِّيقِينَ، وَكَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الاَْبْرَارِ، عُمَّارُ[١٦٢] اللَّيْلِ، وَمَنَارُ النَّهَارِ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَيَعْلُونَ، وَلاَيَغُلُّونَ[١٦٣] وَلاَ يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ، وَأَجْسَادُهُمْ في الْعَمَلِ!