ومن كتاب له (عليه السلام)
إليه أيضاً
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِالَّلمْحِ الْبَاصِرِ[١] مِنْ عِيَانِ الاُْمُورِ[٢]، فَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلاَفِكَ بِادِّعَائِكَ الاَْباطِيلَ، وَإقْحَامِكَ[٣] غُرُورَ الْمَيْنِ[٤] وَالاَْكَاذِيبِ، وَبِانْتِحَالِكَ[٥] مَا قَدْ عَلاَ عَنْكَ[٦]، وَابْتِزَازِكَ[٧] لِمَا قَدِ اخْتُزِنَ[٨] دُونَكَ، فِرَاراً مِنَ الْحَقِّ، وَجُحُوداً لِمَا هُوَ أَلْزَمُ لَكَ مِنْ لَحْمِكَ وَدَمِكَ[٩]، مِمَّا قَدْ وَعَاهُ سَمْعُكَ، وَمُلِىءَ بِهِ صَدْرُكَ، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ، وَبَعْدَ الْبَيَانِ إِلاَّ الَّلبْسُ[١٠]؟
فَاحْذَرِ الشُّبْهَةَ وَاشْتَِمالَهَا عَلَى لَبْسَتِهَا[١١]، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلاَبِيبَهَا[١٢]، وَأَغْشَتِ الاَْبْصَارَ[١٣] ظُلْمَتُهَا.
وَقدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْكَ ذُو أَفانِينَ مِنَ الْقَوْلِ[١٤] ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْمِ[١٥]، وَأَسَاطِيرَ[١٦] لَمْ يَحُكْهَا[١٧] مِنْكَ عِلْمٌ وَلاَ حِلْمٌ[١٨]، أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي الدَّهَاسِ[١٩]، وَالخَابِطِ[٢٠] فِي الدِّيمَاسِ[٢١]، وَتَرَقَّيْتَ إِلَى مَرْقَبَة[٢٢] بَعِيدَةِ الْمَرَامِ، نَازِحَةِ الاَْعْلاَمِ[٢٣]، تَقْصُرُ دوُنَهَا الاَْنُوقُ[٢٤]، وَيُحَاذَى بَهَا الْعَيُّوقُ[٢٥].
وَحَاشَ لله أَنْ تَلِيَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدِي صَدْراً أَوْ وِرْداً[٢٦]، أَوْ أُجْرِيَ لَكَ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ عَقْداً أَوْ عَهْداً!! فَمِنَ الاْنَ فَتَدَارَكْ نَفْسَكَ، وَانْظُرْ لَهَا، فَإِنَّكَ إِنْ فَرَّطْتَ حَتَّى يَنْهَدَ[٢٧] إِلَيْكَ عِبَادُ اللهِ أُرْتِجَتْ[٢٨] عَلَيْكَ الاُْمُورُ،مُنِعْتَ أَمْراً هُوَ مِنْكَ الْيَوْمَ مَقْبُولٌ.
----------------------------------------
[١] . اللّمح الباصر: الامر الواضح.
[٢] . عِيان الامُور: مشاهدتها ومعاينتها.
[٣] . اقحامك: إدخالك في أذهان العامة غرور المين.
[٥] . انتحالك: ادعاؤك لنفسك.
[٦] . ما قَدْ عَلاَ عنك: ما هو أرفع من مقامك.
[٨] . اخْتُزِنَ أي: مُنِعَ دون الوصول اليك.
[٩] . المراد بالذي هو ألزم له من لحمه ودمه: البَيْعة بالخلافة لاميرالمؤمنين.
[١٠] . اللَبْس ـ بالفتح ـ: مصدر لبس عليه الامر يلبس ـ كضرب يضرب ـ: أي خلطه، وفي التنزيل: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيهم ما يَلْبِسون)
[١١] . اللُبْسَة ـ بالضم ـ: الاشكال.
[١٢] . أَغْدَفَت المرأة قِنَاعَها: أرسلته على وجهها فسترته، وأَغْدَف الليل: أرخى سدوله ـ أي أغطيته ـ من الظلام. والجلابيب: جمع جلباب، وهو الثوب الاعلى يغطي ما تحته، أي طالما أسْدَلَت الفتنة أَغطية الباطل فأخفت الحقيقة.
[١٣] . أغشت الابصار: أَضعفتها ومنعتها النفوذ إلى المرئيات الحقيقية.
[١٤] . أفَانِينُ القول: ضروبه وطرائقه.
[١٥] . السِّلْم: ضد الحرب.
[١٦] . الاساطير: جمع أُسْطُورة، بمعنى الخرافة لا يعرف لها منشأ.
[١٧] . حاكَه يحوكه: نسجه، ونسج الكلام: تأليفه.
[١٨] . الحِلْم ـ بالكسر ـ: العقل.
[١٩] . الدَهاس ـ كسَحَاب ـ: أَرض رِخْوَة لا هي تراب ولا رمل، ولكن منهما، يعسر فيها السير.
[٢٠] . الخابط في السير: الذي لايهتدي.
[٢١] . الدِيماس ـ بالكسر ـ: المكان المظلم تحت الارض.
[٢٢] . المَرْقبة ـ بفتح فسكون ـ: مكان الارتقاب، و هو العلو و الاشراف، أي رفعت نفسك إلى منزلة بعيد عنك مَطْلبها.
[٢٣] . نازحة أي: بعيدة، والاعلام: جمع عَلَم، وهو ما يُنْصَب ليُهْتَدى به، أي خَفيّة المسالك.
[٢٤] . الانوق ـ كصَبُور ـ: طير أصلع الرأسِ، أصفر المِنْقار، يقال: أعزّ من بيض الانُوق، إذْ تحرزه فلا تكاد تظفر به، لان أو كارها في القُلَل الصعبة، ولهذا الطائر خصال عدّها صاحب القاموس.
[٢٥] . العَيّوق ـ بفتح فضم مشدّد ـ: نجم أحمر مضيء في طرف المجرّة الايمن يتلو الثريا لا يتقدمها.
[٢٦] . الصَّدَر ـ بالتحريك ـ: الرجوع بعد الشرب. والوِرْد ـ بالكسر ـ: الاشراف على الماء.
[٢٧] . ينهَد: ينهض لحربك.
[٢٨] . أُرْتِجَتْ: أُغْلِقَتْ، وتقول: أرْتَجَ الباب كَرَتَجَهُ، أي أغلقه.